مر أكثر من 17 عاما على انتهاء فترة حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين؛ إلا أن ساسة ما بعد 2003 ما زالوا يتنعمون بمخلفاته، ومن أهمها المجمعات الرئاسية التي تعتبر الأكثر تميزا بتصاميمها الهندسية والعمرانية على مستوى العالم، وتقدر بمليارات الدولارات.
وتضم المنطقة الخضراء شديدة التحصين (وسط بغداد)، التي تحتضن مقر الحكومة العراقية معظم وأبرز القصور الرئاسية، التي شيدها صدام، وتتوزع أكثرها إثارة وفخامة فيها، إضافة إلى حيي الحارثية والقادسية في جانب الكرخ من بغداد، وأحياء الكرادة والعرصات والجادرية في جهة الرصافة من العاصمة، وتحولت إلى أماكن ومراكز حيوية لساسة ما بعد 2003 ولعوائلهم ونشاطاتهم الحزبية والسياسية، فيما تحول جزء منها إلى مبان ومقار للمؤسسات الحكومية والأمنية تحديدا.
((القصر الرئاسي في محافظة صلاح الدين))
ويُعتبر مبنى القصر الجمهوري "قصر السلام"، الذي وضع تصاميمه البريطاني جيمس بريان كوبر، واكتمل بناؤه في ستينيات القرن الماضي، من أشهر القصور الرئاسية في العاصمة العراقية، ويقع على ضفة دجلة جانب الكرخ. وتحول بعد عام 2003 إلى مقر السفارة الأميركية، وكان الأخير مقر إقامة عدي نجل الرئيس الراحل، وإلى جانبه المقر الرسمي لأخيه قصي. ثم أُلحق به مبنى البرلمان، وهو من تصميم كوبر أيضا.
((قصر الرضوانية من أوسع المجمعات الرئاسية في بغداد)) (غيتي)
ويُعد "قصر السجود" أيضا من أكثر القصور الرئاسية جمالا، ويقع مكان "قصر الزهور" الملكي، الذي حول إلى مبنى لوزارة الثقافة والإعلام، قبل انتقالها إلى المبنى الحديث قي منطقة الصالحية، كما يُعدّ قصر "الرضوانية" قرب المطار، من أوسع المجمعات الرئاسية في العاصمة، إذ تبلغ مساحته 6.9 أميال مربعة، وهو أول قصر رئاسي فتشه مفتشو الأمم المتحدة عام 1998 للبحث عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وخصصته السلطات العراقية ليكون مقرا للجامعة الأميركية في بغداد.
وتُوجد نحو 10 مجمعات رئاسية في عموم مناطق البلاد شيدها صدام، أبرزها في تكريت، حيث يضم المجمع الرئاسي فيها أهم قصرين؛ وهما قصر "الفاروق"، الذي تعرض للقصف الأميركي خلال غزو العراق، وقصر "ذو الفقار"، الذي تحول إلى بناية حكومية.
((إبراهيم المشهداني يرى أن القصور الرئاسية تتميز بقيمتها العمرانية والحضارية وهي ملك للشعب)) (الجزيرة)
80 مجمعا رئاسيا
وتشير التقديرات المتوفرة إلى نحو 80 مجمعا رئاسيا شيدها صدام في عموم مناطق العراق بتصاميم مختلفة هي الأفضل على مستوى العالم من الناحية الهندسية والعمرانية، وتمتلك قيمة حضارية ومادية نادرة، وهي ملك الشعب؛ لكنها فقدت الاهتمام الاقتصادي والمادي من الدولة بعد 2003، حسب الباحث الاقتصادي إبراهيم المشهداني، ومهد هذا التراخي استغلالها لأغراض شخصيها وحزبية من شخصيات تتمتع بنفوذ سياسي وحكومي.
وأخطأت الحكومة العراقية -على حد تعبير المشهداني- باعتمادها سياسة اقتصادية خاطئة، وتجاهلها استغلال عقارات الدولة، وتوظيفها لدعم ميزانية الدولة بما لا يقل عن 10 مليارات دولار أميركي سنويا، لا سيما قصور صدام، التي كان من الممكن أن تتحول إلى مناطق سياحية لافتة مثل الموجودة في محافظة بابل (جنوب بغداد)، مستغربا بيع بعضها بأبخس الأسعار في وقت يبلغ الثمن الحقيقي للبعض منها نحو مليار دولار أميركي؛ لأنها مصممة بأفضل الخرائط والتصاميم الهندسية.
((القصر الرئاسي في محافظة بابل جنوب بغداد)) (غيتي)
ويرى المشهداني أن اعتماد العراق على سياسة اقتصادية عرجاء، وعدم اهتمامه بالسياحة بالمستوى المطلوب، وحصر مصادر الثروة بمصدر واحد، وهو النفط، جعله يفقد الكثير من المصادر المالية؛ لينتج عن ذلك الأزمة الاقتصادية الحالية.
ولكي يتمكن العراق من اجتياز أزمته الاقتصادية الحالية، عليه استغلال قصور صدام بتحويلها إلى متاحف -كما يقترح المشهداني- أو بيعها بسعرها الحقيقي بعيدا عن الاستغلال السياسي من بعض السارقين والفاسدين بطرق "ملتوية واحتيالية"، محذرا في الوقت نفسه مما أسماها بـ"منظومات فساد" باتت تمتلك الخبرة والإمكانية للاحتيال على الدولة والقوانين، وتستثمر مثل هذه المواقع لأغراض خاصة.
((سوران علي لا يرى وجود أي مبرر لبقاء ساسة العراق في القصور الرئاسية)) (الجزيرة)
تقاعس الأحزاب والحكومة
وما يستدعي الإنصاف في الحديث عن قصور صدام، هو أن أحزاب المعارضة العراقية السابقة وقادتها عندما دخلوا البلاد بعد سقوط نظام صدام عام 2003، لم يجدوا مقرات تأويهم، وتكون بمثابة مواقع لنشاطاتهم السياسية والحزبية، سوى مقار حزب البعث الاشتراكي المنحل والمباني التي كانت تشغلها أجهزة النظام الأمنية والاستخبارية، فكان من الطبيعي -حسب الصحفي والمحلل السياسي سوران علي- أن تُشغل تلك المباني والمقار من الأحزاب المتنفذة آنذاك بما فيها قصور صدام، التي تنتشر في أرجاء العراق.
ولم يبق هناك مبرر لشغل تلك القصور والمباني، وكان لا بد من إخلائها وإعادتها إلى سلطة الحكومة العراقية المنتخبة باعتبار أنها أملاك تعود للدولة العراقية بعد إجراء الانتخابات والتصويت على الدستور العراقي في عام 2005؛ إلا أن تقاعس الأحزاب والحكومة في إعادة تلك الأملاك إلى جهتها الرسمية -كما يقول علي- موضوع يحتاج لدراسة وتحليل، فالحكومة إلى الآن ضعيفة وتغلب عليها الطائفية والنزعة الحزبية، فيما تمادت الأحزاب، والطائفية منها تحديدا، في تجاهل سلطة الدولة، وكانت وما تزال تعتبر نفسها الحاكم والناهي والآمر الأوحد دون إيلاء أي اهتمام لتثبيت مبدأ المؤسساتية في الدولة.
ويشبّه علي إشغال قصور صدام والمباني الحكومية من الأحزاب والشخصيات السياسية، وعدم إخلائها وإعادتها إلى الدولة بعد مرور أكثر من 17 عاما على سقوط النظام السابق، بأحد أبرز مظاهر الفساد المستشري في البلاد، معتبرا أن التغافل عن هذه الظاهرة وعدم محاسبة المسؤولين عنها أو مفاتحتهم في الموضوع، وإجبارهم على ترك تلك القصور والمباني، تقاعس واضح وتقصير بيِّن، مطالبا بضرورة العودة إلى حكم القانون والقضاء، وعدم التساهل مع أي أحد إن كان العراقيون يبغون دولة القانون والمؤسسات، التي نادوا بها قبيل إسقاط النظام السابق.
ووصف علي بقاء المباني الحكومية وقصور صدام مشغولة من أحزاب وشخصيات سياسية بعد مرور أكثر من عقد ونصف على سقوط نظام صدام، يعد استهانة بالحكومة العراقية المنتخبة وضربا بالدستور ومبادئ الديمقراطية والمساواة وحكم دولة المؤسسات عرض الحائط، وتناقضا واضحا بين ما ينادي به الساسة العراقيون الجدد من ديمقراطية وحكم المؤسسات والقضاء وما يفعلونه على أرض الواقع، وكذلك تعكس هذه الظاهرة مدى هشاشة وضعف الحكومة وعدم تمكنها من بسط سيطرتها وقراراتها على الجميع وخاصة ذوي النفوذ الديني والطائفي منهم.
أحمد المشهداني أكد أن وزارة المالية العراقية هي الجهة الوحيدة المخولة بالتصرف بالقصور الرئاسية (الجزيرة)
دكاكين للاسترزاق
وما يجعل الأمر مثيرا للجدل أنه رغم سكن صدام لهذه القصور وشغلها؛ إلا أنه لم تكن أي منها مسجلة باسمه، وإنما هي من أملاك الشعب، وتعتبر وزارة المالية العراقية هي الجهة الوحيدة المخوّلة بالتصرف، ويمكن أن تساعد ميزانية الدولة من خلال تحقيق إيرادات ضخمة بها -كما يقول عضو لجنة النزاهة النيابية أحمد المشهداني- مبينا أن أغلب القصور مستغلة إما لأغراض أمنية أو عسكرية، واستغلها الأميركان بعد 2005 لا سيما خلال تأزم الوضع الأمني والسياسي في البلاد.
ويرى المشهداني أن أحد أبرز الأسباب لتوسعة رقعة الفساد في العراق، هو أن الأحزاب السياسية تعتبر الوزارات والمؤسسات، التي تحصل عليها كاستحقاقات انتخابية أشبه ما تكون بـ"دكاكين" تسترزق عليها، وهذا ما يُحتم ضرورة إيجاد رؤية اقتصادية حقيقية لاستغلال واستثمار المجمعات الرئاسية، التي شيّدها صدام؛ لتحقق ميزانية الدولة من خلالها أموالا طائلة تقف إلى جانب الحكومة في أزمتها الحالية.
وختم عضو البرلمان العراقي حديثه للجزيرة نت بوصف استغلال قصور صدام لأغراض شخصية من قبل الطبقة السياسية بـ"سرقة أموال الشعب" واستغلال صارخ لأموال الدولة.