تعتبر الحضارة الرومانية مصدرا رئيسيا للقصص بالنسبة للسينما العالمية. وقد يكون فيلم «المصارع» (Gladiator) الشهير الذي عرض عام 2000 خير مثال لهذه الظاهرة، إذ تناول الفيلم حقبة مهمة من تاريخ الدولة الرومانية وتطرق إلى أهم مظاهرها، ونال نجاحا هائلا، بالإضافة إلى خمسة جوائز للأوسكار.
ولكن هل ما يشاهده المُشاهد في هذا الفيلم يمثل التاريخ كما حدث؟ بدأ الفيلم بالمعركة الأخيرة بين الجيش الروماني الجرار وقبائل من البرابرة في صربيا عام 180 ميلادي، منهية الحرب بين الجانبين.
واستعملت فيها مختلف المعدات العسكرية مثل المنجنيق المعقد والقنابل التي انفجرت داخل الغابة بشكل مرعب، وكان الجنود الرومان يرتدون أزياء عسكرية جميلة جدا امتازت بقماشها الأحمر الغامق، بينما ارتدى رجال القبائل ملابس من العصر الحجري.
وبدأت المعركة بهجوم لرجال القبائل، حيث خرجوا من الغابة باتجاه الرومان، ثم انتقل القتال بطريقة ما إلى داخل الغابة نفسها، على شكل قتال بالسيوف رجل لرجل في فوضى عارمة.
ولكن هل كان الرومان والبرابرة في الحقيقة يقاتلون بهذا الشكل؟ كل هذا كان من وحي الخيال، حيث لم يملك الرومان ذلك المنجنيق المعقد، أو تلك القنابل الخطيرة التي لم تظهر إلا بعد ذلك بألف عام، بل إن الرومان لم يستعملوا مناجيقهم البدائية إلا في حصار المدن لدك الأسوار.
أما الملابس العسكرية الرومانية، فلم تكن فقط غير حقيقية، بل إن المؤرخين لا يملكون أي معلومات عن ألوان الأزياء الرومانية.
ومن الغريب في الأمر أن رجال القبائل بدوا مرتدين ملابس العصر الحجري ويقاتلون بشكل فوضوي، بينما في الحقيقة لم يكونوا بتلك الدرجة من التخلف، فقد كانوا يصنعون أسلحتهم بأنفسهم، وكانت لديهم خبرة طويلة في قتال الجيش الروماني.
وأما الرومان، فلم يفضلوا القتال داخل الغابات، لكون ميزتهم الرئيسية تشكيلاتهم المتراصة المعقدة بمعايير تلك الفترة، التي لم يكونوا قادرين على الحفاظ عليها داخل الغابات الأوروبية الكثيفة.
وللسبب نفسه كانوا يتجنبون المبارزات الفردية، أي رجل لرجل، لأن رجال القبائل كانوا أكبر حجما وأقوى جسديا منهم.
ولكن المبارزات الفردية تبدو رائعة في الأفلام مهما كان زيفها، لاسيما تلك التي ركزت على القائد الروماني «ماكسيموس» (راسل كرو) الذي كان يعرض حياته للخطر، وبالتالي نتيجة المعركة.
ومن الناحية التاريخية، فإن أي قائد يشارك في القتال بتلك الطريقة يعرض حياته للخطر، لاسيما أن جنود الأعداء سوف يميزونه ويستهدفونه.
وفي حالة مقتله ينهار الجيش الروماني لفقدانه قائده.
ظهر الامبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس» (ريتشارد هاريس) في الفيلم رجلا هرما، وفي حالة يرثى لها وفي غاية التواضع. وكان يتعامل مع القائد «ماكسيموس» باحترام واضح، حتى أنه أبلغه بنيته تعيينه خلفا له موصيا إياه بتطبيق تعليمات محددة حول مستقبل الدولة الرومانية.
وقد ظهر الامبراطور بهذا الشكل لأن ريتشارد هاريس الذي مثل دوره في الفيلم كان في السبعين من عمره، وله تاريخ عريق في إدمان الكحول والمخدرات. ولكن الامبراطور الحقيقي لم يكن كذلك، حيث توفي عندما كان في الثامنة والخمسين من عمره فقط، وكان صارما جدا مع قادته. وأما «ماكسيموس»، فهو شخصية خيالية تماما.
ومن غير الممكن أن يكون قائد الجيش الروماني بتلك المهارة الأسطورية في المبارزة وقتل الأعداء، حيث أن كفاءة قيادة الجيش كانت تتطلب رجلا أكبر سنا من الجنود العاديين، ولا علاقة بين كفاءة القتال الفردي وجودة قيادة الجيش.
في الواقع، فإنه خلافا للفيلم، فإن الامبراطور «ماركوس أوريليوس» لم تكن لديه أي خطط حول مستقبل الدولة الرومانية، وإن كانت لديه تلك الخطط، فمن المعقول القول إنه كان سيحققها هو بدلا من الاعتماد على أحد قادته.
وكان واضحا أنه قرر أن يخلفه ابنه «كومودوس» (يواكين فينيكس) حيث جعل ابنه شريكا في الحكم وهو في الخامسة عشرة من عمره.
ولم يعاتب «ماركوس أوريليوس» ابنه لقدومه بعد انتهاء الحرب، لأنه من الناحية التاريخية كان قد أتى أصلا قبل بدايتها تلبية لطلب والده الذي منحه لقبا نبيلا بعد المعركة، أمام الجيش الروماني لتقوية مركزه.
وفي الواقع أن الامبراطور «ماركوس أوريليوس» توفي قبل نهاية الحرب ضد البرابرة، وكان ابنه «كومودوس» قد نجح في تحقيق السلم مع القبائل، عن طريق التفاوض معهم، وإيقاف القتال قبل أن يعود إلى روما.
ويدعي الفيلم أن الامبراطور «ماركوس أوريليوس» قتل على يد ابنه عند سماعه برغبة والده في تعيين القائد «ماكسيموس» خلفا له، ثم طلب من القائد إعلان ولائه له.
ولكن «ماكسيموس» رفض ذلك، فأمر الامبراطور الابن «كومودوس» باعتقاله وإعدامه، بالإضافة إلى قتل عائلته المقيمة في إسبانيا، فـ»ماكسيموس» كان إسبانياً.
أما الحقيقة، فكانت مختلفة حيث توفي الامبراطور بسبب إصابته بالطاعون الذي كان قد انتشر بين صفوف الجيش الروماني، ما هدد كفاءته.
وقام «ماكسيموس» في الفيلم بمواجهة الفريق المكلف باغتياله، وقتل جميع أفراده بمفرده بطريقة غير معقولة، ولكنه أصيب بجرح بالغ.
ومع ذلك، فإنه أخذ حصانه مسرعا بكل طاقته للوصول إلى إسبانيا. واكتشف عند وصوله أنه تأخر حيث قتل أفراد عائلته كلهم، فينهار لهول الصدمة وشدة إصابته.
يختلف الفيلم عن الأفلام التي اقتُبس منها في تفوقه الواضح عليها في العنف والوحشية، إلى درجة الإفراط فيهما، ولذلك فإنه إذا كان ينتقد الرومان القدماء لاستمتاعهم بمشاهدة القتال المتوحش للمصارعين، فإن مشاهدي اليوم لهذا النوع من الأفلام لا يقلون عن الرومان سادية وحبا في مشاهدة العنف المبالغ فيه.
ولم يبين الفيلم أن الرحلة من صربيا، حيث معسكر الجيش الروماني، إلى إسبانيا كانت تستغرق آنذاك أكثر من شهر. وإذا أخذنا جراح «ماكسيموس» بعين الاعتبار فإنه كان سيلقى حتفه بعد مغادرته المعسكر بأيام قليلة بسبب انعدام الرعاية الطبية. ولكن «ماكسيموس» لم يمت في الفيلم، حيث عثر عليه مجموعة من تجار العبيد، أخذوه معهم ونجحوا في علاجه.
واختلق الفيلم الكثير من التفاصيل غير الواقعية حول هؤلاء التجار، وأهمها أنه من غير المعقول أن يهتم تجار العبيد برجل مصاب بجروح بالغة، ومغشي عليه في العراء، لانعدام فائدته بالنسبة لهم، كما أن أخذه والاعتناء سيكون عبأ ثقيلا عليهم. ولا يمكن وصف تجار العبيد بأنهم عاطفيون نبلاء.
كان تجار العبيد يشكلون جزء مهما من النظام الاقتصادي والاجتماعي، إذ كانوا يتبعون الجيش الروماني أينما ذهب بسبب عادة الجيش في بيع سكان المناطق التي يحتلها إلى التجار.
ومما هو جدير بالذكر أن القائد والسياسي الروماني الشهير «يوليوس قيصر» قام مرة باحتلال منطقة في فرنسا، وباع جميع السكان (ثلاثة وخمسين ألف شخص) فورا إلى تجار العبيد. ولم يرسل الثمن إلى العاصمة الرومانية، بل وضعه في جيبه، وأعتُبِرَت كل الأراضي الفرنسية التي احتلها ملكا خاصا له.
وازدهرت تجارة العبيد قبل بداية القرن الأول الميلادي عندما كانت الدولة الرومانية في توسع سريع. وكان أغلب العبيد من ألمانيا وأوروبا الشرقية. وبلغت نسبة العبيد في الدولة الرومانية في إحدى المراحل خمسة وثلاثين في المئة من السكان. وعمل العبيد في مختلف المهن.
ولكن المقاتلين من العبيد كانوا غالبا ما يستعملون كمصارعين للقتال حتى الموت في الملاعب والاحتفالات بطريقة وحشية، حيث كانت مشاهدة هذا النوع من القتال أهم وسائل التسلية في الدولة الرومانية.
وكان هؤلاء المصارعون تحت رقابة شديدة من قبل الجيش الروماني، لقابليتهم على الحصول على السلاح، ومهارتهم في استعماله ما قــــد يشــــكل خطرا على الأمن العام، فثورات خطــــيرة حدثت من قبل المصارعين كان أشهرها تلك التي قادها المصارع الشهير «سبارتاكوس».
ولم يكن إخمادها سهلا بالنسبة للجيش الروماني، ولما كان المصارعون من الشباب، فأغلبهم لا يعيش أكثر من سبعة وعشرين عاما، فالقتل كان المصير الأكثر شيوعا. أما الحصول على الحرية من قبل العبد أو المصارع، فكان نادرا.
ويستمر الفيلم في سرد القصة، حيث انتهى المطاف بتجار العبيد في الجزائر التي كانت مستعمرة رومانية.
وهناك باعوا «ماكسيموس» إلى متعهد (الممثل أوليفر ريد) للمصارعين. ولم يهتم صانعو الفيلم بمشكلة أعمار الممثلين في هذه المرحلة، حيث كان واضحا أن «ماكسيموس» ورفاقه كانوا متقدمين في السن لهذه المهنة.
وبيّن الفيلم أن أحد المصارعين كان كاتبا وخبيرا باللغات، بينما في الحقيقة كان يستفاد من هذا الشخص في الشؤون الإدارية، ولا يمكن أن يستعمل كمصارع. ولم يتطرق الفيلم إلى الظروف اللاإنسانية التي كان يعيشها المصارعون.
وقد مثّل دور المتعهد الممثل البريطاني أوليفر ريد، الذي التقى في الحقيقة أثناء التصوير بمجموعة من البحارة وتحداهم للدخول في مسابقة معه لشرب الكحول، حيث كان مدمنا عليه. وانتصر أوليفر ريد عليهم بسهولة. ولكنه قبل أن يحتفل بانتصاره، أصابته نوبة قلبية أنهت حياته. وحدث كل هذا قبل انتهاء تمثيل دوره في الفيلم.
يظهر المتعهد في الفيلم إعجابه بقدرات «ماكسيموس» القتالية ويخبره أن الامبراطور الجديد، قرر إقامة نزالات للمصارعين في ملعب روما الرئيسي لمدة مئة وخمسين يوما، بعد أن كان والده قد منعها، وأخبره أن عليه كسب إعجاب الجمهور.
ولكن التاريخ يقول إن «ماركوس أوريليوس» لم يمنع المصارعة باستثناء مدينة واحدة كعقوبة لسكانها عن طريق حرمانهم من متعة المشاهدة، فلم تكن مصلحة المصارعين من اهتمامات الأباطرة الرومان. انتصر «ماكسيموس» وفريقه في روما على منافسيهم في قتال دموي، مثيرا إعجاب وحماس الجماهير بحضور الامبراطور الابن «كومودوس» الذي قرر النزول إلى الملعب لتهنئة المنتصر.
ولكنه فوجئ بأن المنتصر هو «ماكسيموس» الذي توعده وأقسم على الانتقام منه لمقتل عائلته. وغضب الامبراطور الابن «كومودوس» ولكنه لم يقتل «ماكسيموس» كي لا يغضب الجماهير، ولهذا السبب يعود المنتصرون إلى مقرهم بسلام.
وهناك تتصل شقيقة «كومودوس» بـ»ماكسيموس» وتتفق معه ومع أحد أعضاء مجلس الشيوخ على أن يفر إلى خارج روما للانضمام إلى الجيش الروماني وقيادته نحو المدينة واحتلالها للإطاحة بـ»كومودوس».
ولكن الخطة تنكشف ويهجم حراس «كومودوس» على المصارعين ويقتلونهم جميعا باستثناء «ماكسيموس» الذي تحداه «كومودوس» لنــزال حتى الموت أمام الجماهير. وانتهي النزال بمقــــتل «كومــــودوس، ولكن «ماكسيموس» أصيب بجراح بالغــــة، فطلب من قائد الحرس الامبراطوري إطلاق المعتقلين، وتنفيذ تعليمات «ماكوس أوريليوس» حول مستقبل روما. من الناحية التاريخية لم يدم حكم «كومودوس» عدة أسابيع، وهو الانطباع الذي أعطاه الفيلم، بل اثني عشر عاما.
ولم تكن شقيقته على علاقة جنسية معه (أوب»ماكسيموس»)، ولكنها حاولت تدبير اغتياله بدون نجاح، فأمر شقيقها بإعدامها. وكان «كومودوس» قاسيا (كغيره من الأباطرة الرومان) وعنيفا ورياضيا ومن هواة المصارعة، ما أثار استياء المواطنين الرومان، نظرا لاحتقارهم الشديد للمصارعين. وانتهى الأمر باغتياله، حيث تم تخديره قبل ذهابه إلى حمام السباحة، وقام أحد مشاهير المصارعين بقتله هناك. وكان مقتله بداية لفترة من الاضطرابات الخطيرة في الدولة الرومانية.
ما قدمه الفيلم من الناحية التاريخية عبارة عن مجموعة من الخرافات، ولكنه اعتبر من الناحية التقنية علامة فارقة في تاريخ السينما، لأنه كان الفيلم الأول الذي يستعمل تقنية الكومبيوتر في إنجاز المشاهد، فالملعب الرئيسي العملاق وحجم الجيش الروماني الهائل، كانا من إنجاز خبراء الكومبيوتر.
ولكن إنجازهم ألأكثر بروزا كان اختلاق شخصية الممثل أوليفر ريد في المشاهد التي كان يجب أن يمثلها نظرا لوفاته المبكرة قبل التصوير. كان فيلم «المصارع» في الحقيقة مزيجا من مقاطع مأخوذة من عدة أفلام شهيرة سابقة مثل «سبارتاكوس» (1960) و»سقوط الامبراطورية الرومانية» (1964) ورواية «أنا كلاوديوس» المعروفة.
أما رغبة «ماكسيموس» في الانتقام لمقتل عائلته فقد جعلت القصة تعتمد على مشاعر شخصية بحتة، وكانت حبكة ساذجة نجدها في الكثير من الأفلام السينمائية، خاصة في أفلام رعاة البقر، ما يقلل من أهمية سعي البطل لتحقيق أهداف سامية. ولكن أكثر ما ظهر في الفيلم غرابة كان النزال بين الامبراطور الابن «كومودوس» و»ماكسيموس»، فلماذا يقوم الامبراطور بذلك وهو القادر على إصدار الأمر بإعدام غريمه.
يختلف الفيلم عن الأفلام التي اقتُبس منها في تفوقه الواضح عليها في العنف والوحشية، إلى درجة الإفراط فيهما، ولذلك فإنه إذا كان ينتقد الرومان القدماء لاستمتاعهم بمشاهدة القتال المتوحش للمصارعين، فإن مشاهدي اليوم لهذا النوع من الأفلام لا يقلون عن الرومان سادية وحبا في مشاهدة العنف المبالغ فيه.
٭ باحث ومؤرخ من العراق