المطرب والملحن محمد صالح عزاني ..أكثر أبناء جيله نجاحاً وأقلهم توثيقاً لأعماله
كتب الفنان /عصام خليدي
قـليـلة تـلك التجارب التي ُخلـقـت لتحيا وتظل بما يميزها من قـيم إنسانـية وجمالية راسخة بأفئـدتـنا ووجداننا وعـقولنا لا تـزول رغم صعـوبة وحجم المــعانـاة التي عـادةً ما تلازم مثل هذه التجارب الإبـداعية الخلاقـة غير النمطـية خاصة في مجتمعاتـنا العربية المتخلفـة التي لا تقدر كما يجب وينبغي قيـمة ومكانة هذه القدرات والمواهب منذ بداياتها الاولى ، بل أن المسألة تحتاج في واقعنا الثقافي الابـداعي كي نمنحها (صك الإعتراف والموافقة) زمناً طويلاً وثمناً باهظاً محسوباً من عــمر وحــياة تـلك المــوهبة أو من على شاكلــتها.
الحقيقة أن الفنان المتميز محمد صالح عزاني الذي يصادف رحيله 18 مارس الجاري(40 عام على رحيله) يعد واحداً ممن تنطبق عليهم هذه المقدمة فالجميع يعلم أنه ظهر كموهبة فـذة في وقت مبكر جداً من حياته الفنية وقد سبقه بالظهور كثيراً من المطربين وايضاً رافقه بفترة ظهوره العديد من زملائه واترابه في المهنة، وبطبيعة الحال جاء من بعده آخرين، ولكن العزاني رغم قصر عمره الفني أستطاع أن يختط طريقاً ومسلكاً يخصه بل أنه نحت في الصخر ليؤسس لنفسه مكانة فنية مرموقة أستطاع بها أن يختزل سنوات طويلة من عمره الفني الحافل ليجعل من تجربته الغنائية والموسيقية مثلاً يحتدى به ويشار اليه بالبنان فيصبح الرقم (الصعب) في سماء الغناء اليمني ،الأمر الذي عجز عن تحقيقه الكثيرين في الاوساط الفنية، وتلك هي (مشكلة العزاني) مع حزب أعداء النجاح ما حققه من نجاحات متسارعة مضطردة ، فلم يستطع الواقع في تلك الفترة ان يجاريه بخطواته الفنية الواثقة المتلاحقة بل ان كثير من (الأصنام) التقافية والابداعية وقــفـت في فترة ما (ضد مشروع الفنان محمد صالح عزاني الغنائي الموسيقي).
فكيف يمكن أن تتخيل حجم المعاناة التي أصطدم بها العزاني مرهف الاحساس مع الواقع المؤلم (المصنم والجامد)، ليخوض تجربة إنسانية وفنية شاقة قاسية جداً (رمت به الى متاهات أدرك بها البداية ولم يستطع أن يدرك النهاية؟!!) ، دليلنا على صحة ما نقول أن العزاني أكثر أبناء جيله نجاحاً وأقلهم توثيقاً لأعماله في أجهزة الاعلام اليمنية الاذاعة و التلفزيون ، لم يتمكن العزاني من التوثيق والتسجيل إلا في البدايات الاولى من حياته الفنية ومن ثم إنقطاع طويل ليعود بعدها للتسجيل والتوثيق بعد وساطات وتدخلات من (الطـيبـين) ولكن في اللحظات الاخيرة من عمره الفني المثمر الحافل والجميل، وبعد أن داهمه المرض والإحباط ، لكننا حتى في حالته الاخيرة لم نشاهد العزاني إلا مبدعاً ..خلاقاً ..رائعاً..شامخاً..
شكل الفنان محمد صالح عزاني ( ثنائية ناجحة ) مع الشاعر الغنائي الرائع أحــمد بو مهدي رحمه الله.
قــدم الفنان محمد صالح عزاني مجموعة متميزة من الاعمال الغنائية في بداياته الاولى تركت علامة مهمة وخصوصية متفردة في مشواره الفني، إذ أنه شكل مع الفنان الملحن القدير فيصل عبد العزيز (ثنائي متألق) ومن الاعمال التي نتذكرها لهما على سبيل المثال/ فين التقينا / إيش من أسرار/ مثل الامال.. وفي الواقع نشعر أن هذه الاعمال التي (أتسمت بدرجة عالية من التكنيك النغمي والموسيقي) تستحق عناء الدراسة والبحث لاحقاً لاهميتها.
تتلخص تجربة الفنان محمد صالح عزاني الغنائية والموسيقية وتـنقـسم الى ثلاتة محاور هامة:-
العمق في الأداء:-
كان الفنان محمد صالح عزاني يمتلك صوتاً جميلاً عذباً آخاذاً ممزوجاً بخليط من المشاعر والأحاسيس والإنفعالات الإنسانية والفنية وكان من الفنانين القلائل الذين يتمتعون بحضور إبداعي (غنائي مســرحـي فنــي) قوي ومؤثر على كافة المستويات في توصيل الأغنية فيصل في كثير من الأحيان الى (حالة من التوحد الوجداني و الإبداعي) مع المستمع والمتلقي لأعماله وأغانيه (فينصهرا) ليشكلا معاً مشهداً غنائياً منسجماً متناغماً قوامه الصدق في ملامح وتعابير ونبرات صوت العزاني وقوة وسلامة مخارج الألفاظ التي تمكنه من إقناع كل من يستمع إليه بأنه بالفعل يعاني من (حالة إنسانية ما وجدت في سياق ومضمون النص الغنائي الذي يتعاطاه)، وللعزاني حليات صوتية حباه الله بها في غاية العذوبة والسلاسة والوضوح تمكنه من القيام بعملية أشبه ما يمكن ان نطلق عليها ( عملية تنويم مغاطيسي) يصل اليها في دروة أدائه لأغنياته الرائعة مع المستمع والمتلقي الذي يجد نفسه لا يستطيع أن ينصرف بعينيه وبأذنيه عن متابعة أداء العزاني الساحر والآخــــاذ، ومن هنا يأتي سر نجاح العزاني في شفافية وروعة أسلوب وحرفية وصدق وعبقرية غنائة و أدائـه العـــميق لأعمــاله الفنــية التي نتــــذكر منها: تسألني كيف الحال/ ظن إني نسيته/ أتفقنا إنـنا ما نــتفـق / بــعد إيــه ترجــع لحبــي / ساعة ما نظرتك/ فين التقينا / مستحيل أنساك/ أشتقت لك / مثل الآمال / أنا وهو أنظلمنا / خلاص بنساك.. وغيرها.
الأعمال الغنائية التي قدمها لكبار الملحنين :-
قـــدم للعزاني في بداية مشواره الغنائي نخبة من المع الملحنين الكبار في ساحة الغناء اليمني بذلك الوقت الحان خالدة مكنت صوت العزاني من الظهور بقوة وثبات ومن أشهر هؤلاء الفنانين الأساتذة: محمد مرشد ناجي/ محمد محسن عطروش/ أحمد المحسني/ فيصل عبد العزيز.. وآخرين ، إلا أن الفنان محمد صالح عزاني أستطاع ان ُيكون شخصية مستقلة وبصمة خاصة تحسب له بخروجه من جلباب وعباءة تلك الأسماء المؤثرة الكبيرة المعروفة بمدارسها ومناهجها في ساحة الغناء اليمني، فلم يكن مقلداً أو تكراراً لأحد، بل قدم ألحان أساتذته بكل صدق وعشق وأمانة ليضيف اليها أحاسيسه ومشاعره وتجربتة المستقلة، وقد نجح بذلك تماماً إذ اننا لا يمكن ان نتذكر عندما يغني العزاني إلا حضوره اللافت والمبهر وصوته الحنون الرخيم المتألق.
ملحن من الطراز الاول:-
مما لاشك فيه أن الفنان محمد صالح عزاني قد تدرج وتدرب عبر مراحل فنية متلاحقة سبق أن تحدثنا عنها في البداية وعن التسلسل الذي مر به العزاني في حياته الفنية كصوت متفرد ثم مؤدي يمتلك قدرات نادرة، وبالطبع هذه التراكمات اوصلته بجدارة ليكون ملحناً بارعاً متميزاً أمتلك بالفعل أدواته الفنية وأبحر بها في عوالم غنائية موسيقية كونية.
تـأثـر الفنان محمد صالح عزاني (الملحن) بكل المدارس الفنية التي سبقته وعلى وجه الخصوص مدرسة الأساتذة: محمد مرشد ناجي / محمد محسن عطروش /المحسني / فيصل عبد العزيز ،ونستطيع القول أنه تمكن من (إستيعاب وهضم كل المدارس الكبيرة في فن التلحين ليخرج بخلاصته وتجربته المتفردة) كملحن شكلته كل تلك التجارب الموسيقية وصقلته لتصنع منه (ملحناً من الطراز الاول).
تـميـز (العـزاني) بقدرته الفائقة في توظيف كثير من الإيقاعات الشعبية والنغمات المتداولة كموروث غنائي في (أبــيـن ولحـج وشـبـوه) و قام بإستخدامها في ألحانه بأسلوب مغاير ومعالجة حديثة كما ألبسها قلادة موسيقية متجددة متطورة مليئة بالطرب والأحاسيس المعبرة عن المشاعر العاطفية الرومانسية والإنسانية المتجددة المتنوعة الراقية والباذخة المصحوبة بالشجن والحنين واللوعة والإشتياق العذب الجميل المحبب للقلب، مثال على ذلك ألحانه في أغنياته: ظبي شفته / الطــير الأخــضر/ نــاقــش الحــنة/ شلني يا دريول/ يا أهل ذي الساكن/ يا حبـايـب.
كما أبدع فناننا الراحل في الجانب الأخر بأسلوب جديد أظهر فيه مواهبه وملكاته الفنية الغنائية ذات الأبعاد والأشكال والجمل والقوالب الموسيقية المختلفة المتناغمة التي تنم عن معرفة ودراية وبشكل موسيقي مدروس تبلور بصورة جلية وواضحة في (ديناميكية وحركة ورشاقة الأرتام وتعـدد المقامات) الممزوجة ببراعة وإجادة وإتقان مع التعابير الجمالية و الروحية والحسية المعنوية التي قدمها في أغانيه محـلـقـاً على بساط حنجرته وصوته المخملي الراقي والحنون في مدارات وفضاءات غير متناهية، ونجح بإقتدار وحنكة في تقديم وتوصيل قضايا فنية وإيقاعية وموسيقية حملت قـيـم ومفاهيم وروئ ودلالات إبداعية بالغة الاهمية، تستند وتتكئ على الاصالة والثرات رفدت بثراء تجربته ونهضت بمشروعه الحداثي المعاصر في مسار الغناء اليمني، واستطاع العزاني (كملحن حديث العهد) أن يمنح حنجرته وصبابته (الذهـبـية) ما كانت تستحقة من ألحان متفردة متطورة وخالدة ، فلم نشعر نحن كمتذوقين أن هناك فارقاً كبيراً قد حصل أو خلل حدث في مسيرته الفنية بعد ان تولى مهمة التلحين لنفسه وتوقف عمالقة التلحين من تعاملهم معه، ومن وجهة نظري ان ذلك أمراً لم يكن بسيطاً وسهلاً على الاطلاق ، (تجاوزه العزاني الملحن بتفوق ونجاح منقطع النظير)، ومن الاعمال ذائعة الصيت التي تؤكد موهبته ملحناً من الطراز الاول على سبيل المثال أغانيه: ظن اني نسيته / أتفقــنا / بعد ايه ترجع لحبي / بلادي الى المجد / بالنار والحديد / ( ولو نويت الهجر هذا اللحن جديد) لم يتم تؤثيقه لأجهزة الأعلام اليمنية ، وأحتفظ بمكتبتي الفنية الموسيقية بتسجيل خاص بصوت العزاني أهداه لي الشاعر والصديق أحمد بومهدي رحمه الله في بداية حياتي الفنية.
أستخدم الفنان محمد صالح عزاني المقامات الشرقية الأصيلة في أعماله الغنائية الموسيقية مثل (الراست) ومقام (البيات) ومقام (الحجاز) بالإضافة الى مقام (الحسيني على درجة لا) .
من أهم الشعراء الذين تعامل معهم العزاني الأساتذة: محمد سعد عبدالله/ محمد عبدالله بامطرف/ أحمد الجابري/ احمد بومهدي/ مصطفى خضر/ محسن بريك/ عمر عبدالله نسير... وآخرين.
كان للعزاني دوراً مهماً ومتميزاً في سفر الغناء الوطني فمن منا لا يتذكر أغانيه الشهيرة (بلادي الى المجد) واغنيته البديعة (بالنار والحديد).
خــــتامـــــــــــــاً:-
رحـــلــة تـعـب.. ومعـانــاة .. وألــم .. وإبــداع .. وتـألـــق، تــخلـلـت مـسـيرة الفنان محمد صالح عزاني، رفع عالياً سمعة ومكانة الوطن اليمني في جميع المحافل العربية والـدولـــية، وقــدم (النموذج) في سنوات الــبذل والعــطاء ، لم يسعى في حيـــاته (لمنصب أو جــاه..؟!!) ،عــاش لا يمــلك سوى رصيده الفني الأصيل، ليبقى ويظل (ملـكاً مـتوجــاً) في قلوب جماهيره وعــشاقـه ومحــبـيه حتى كتابة هذه السطور مــنذ رحيــله في تـــاريــخ 18/ مارس/ 1980 م .
أتــمنى أن أكـون قـد وفـقـت فـــي إقــتطــاف بـاقـات من خــمــائل وزهــــور (حـديـقــة الـعــزانــي) الغنائية الموسيقية والإنسانية رائعة البهجة والجمال.
العناوين الجانبية:-
1) اتسمت تجربة العزاني الإبداعية (بخليط و مزيج من المشاعر والاحاسيس الفنية والإنسانية الصادقة) .
2) أستخدم الفنان محمد صالح عزاني المقامات الشرقية الأصيلة في أعماله الغنائية الموسيقية مثل (الراست) ومقام (البيات) ومقام (الحجاز) بالإضافة الى مقام ( الحسيني على درجة لا ).
3) تميز (العزاني) بقدرته الفائقة في توظيف كثير من النغمات المتداولة كموروث غنائي و قام بإستخدامها في ألحانه بالإضافة لبراعته في إعادة تقديم الإيقاعات الشعبية وألبسها قلادة موسيقية متجددة متطورة .
4) عندما يغني العزاني يأخذ جمهوره لحالة أشبه ما تكون بعملية تنويم مغناطيسي .
5) يُــعــد من الفنانين القلائل الذين يتمتعون بحضور (غنائي مســرحـي قوي ومؤثر) على كافة المستويات في توصيل الأغنية فيصل في كثير من الأحيان إلى (حالة من التوحد الوجداني) مع المستمع والمتلقي لأغانيه .
6) تمكن من (إستيعاب وهضم كل المدارس الكبيرة في فن التلحين ليخرج بخلاصته وتجربته المتفردة) كملحن شكلته كل تلك التجارب الموسيقية وصقلته لتصنع منه (ملحناً من الطراز الاول) .
جدير بالذكر أن الفنان عزاني مات مقتولاً على يد زوجته التي أحرقته بالماء الساخن وهو نائم غيرةً عليه من النساء المعجبات به وبفنه.
المصدر: عدن تايم