شدني خبر طالعته في صحيفة يتصل بواقعة حكم الصالح مطلقة بمبلغ ( 30 ) ألف ريال « عوضأ لها عن الأعمال المنزلية التي أدتها خلال فترة زواجهما » ، وفق صحيفة الغارديان البريطانية .
وجاء الحكم الفريد بعد سريان قانون الزواج الجديد في بلادها ، الذي ينص - في بعض بنوده- على أحقية الزوجة في طلب تعويض حال طلاقها إذا كانت تتحمل مسؤولية أكبر في تربية الأطفال ومساعدة زوجها ..
مبعث اهتمامي بهذا الخبر أمران ؛ الأول تفشي ظاهرة الطلاق في مجتمعنا ، على نحو ما تشير بذلك التقارير الموثقة من الجهات ذات الاختصاص ، والآخر عزم المملكة على إصدار منظومة التشريعات المتخصصة ، ومن بينها مشروع نظام الأحوال الشخصية فخالجني أمل بأن يكون فيه تشديد في ما يتصل بالطلاق ، وليس في هذا المسلك أي خروج عن مبادئ الشريعة ، فلكل دولة الحق في أن تضع من الشروط التي تراها مناسبة للحد من الطلاق ، وتصعيبه على الرجل الذي بيده الطلاق ، بعد أن أضاف الله سبحانه وتعالى العزم إليه ، فاقتضى ألا يصح الطلاق إلا منه ، لقوله تعالى : ( وإن عزموا الطلاق ) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ) .
وقد تعسف الرجل في استخدام هذا الحق ، وجعله سيفا مسلطة على رقبة المرأة ، يرفعه متى شاء لأتفه سبب ، ولأي مشكلة طارئة ، حتى أصبح ظاهرة مقيتة تهدد العلاقات الأسرية ، وأدت إلى كثير من المشاكل الأسرية ، وتفكك المجتمعات ، وضياع أجيال وتشتتهم .
ولعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهو الذي فرض العديد من القوانين لتنظيم حياة المجتمع ، حتى وإن خالفت ظاهر النصوص الشرعية ، من أجل تحقيق مقاصد الشرع الحنيف ، مثل مواجهته استهتار الرجال في زمانه بالطلاق ؛ فعاقبهم بأن غير صيغة الطلاق التي كانت سائدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحتى زمن خلافة أبي بكر ، رضي الله عنه ، فقد كان الرجل إذا طلق ثلاثا بكلمة واحدة حسبت له طلقة واحدة ، فلما رأى عمر الناس قد استسهلوا هذا الطريق ، وتتابعوا فيه ؛ جعل الطلاق بالثلاث في ملفوظ واحد محرمة لها ويقع طلاقها .. ردعة وتأديبة لقائلها حتى يتقي الله في زوجته .
وقال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاهم عليهم .
وهذا حق من حقوق ولي الأمر ، لينظم للناس حياتهم ، ويحمي المرأة ويحافظ على أجيال المستقبل ويحد من نسب الطلاق المتصاعدة ، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية .
ما قامت به المحكمة الصينية بتعويض الزوجة المطلقة لقاء قيامها بالأعمال المنزلية قد يحد من نزق الرجل في تسرعه بالطلاق ، ويردعه عن التعسف في استخدامه ، علما أن النفقة على المطلقة في الشريعة الإسلامية محل خلاف بين الفقهاء ، وطالما أن هناك خلافة ، فإذن هناك سعة في الأمر ، ورحمة ؛ فهناك نفقة للمعتدة في عدة الطلاق ، لأن الطلاق الرجعي لا يرفع النكاح ، ولا يزيل الحل ، وتبقى المطلقة في حكم الزوجة التي لم يقع عليها طلاق ، فيجب على الرجل نفقتها وكسوتها وسكنها كالزوجة تماما ، كما تجب النفقة للحامل في عدتها عن طلاق بائن ، لقوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) ، ويقول الحق عز وجل : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، وهذه الآية تشمل المطلقة رجعية والمطلقة بائنا ، ثم في قوله تعالى : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) ، فيجب أن يرجع الأمر بالإسكان أيضا إلى المطلقات رجعية أو بائنا ، والأمر بالإسكان للمعتدات هو أمر بالإنفاق عليهن لأنها ممنوعة من الخروج ، ولا تقدر على اكتساب معيشتها ، كما أمر الله بالإنفاق على الحامل ، في نفس الوقت لم ينف وجوب الإنفاق على غير الحامل لقوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) ، فيكون الإنفاق عليها مسكوت عنه حتى يقدم الدليل على ذلك . وقد ضعف أبوحنيفة حديث فاطمة بنت قيس ، التي طلقها زوجها ثلاثا ، فبانت منه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخبرها أن لا نفقة لها ولا سكني ، واعتبروه حديثة شاذة ؛ لأن سيدنا عمر رده بقوله : « لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أو لعلها نسيت » ، كما أنكرت السيدة عائشة على فاطمة هذا الحديث ، وهذا مما أوجب الطعن فيه ، فقد أقر سیدنا عمر بأن المطلقة طلاق بائنة ( المبتوتة ) لها النفقة والسكن ، واعتمد على قوله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .
فطالما أن هناك رأيا واجتهادا لسيدنا عمر في هذه المسألة ؛ فمعنى ذلك أن تكون للمطلقة نفقة يدفعها الزوج في حال طلاق زوجته ، هذه النفقة تعتبر بمثابة مكافأة نهاية خدمة لها ، وتقديرة لعشرتها وعرفانا بخدمتها له ، خاصة إذا علمنا أن الإسلام جعل المرأة غير مسؤولة عن إرضاع ولدها لقوله تعالى : ( إن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ) ، ولا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إن كان أبوه حية موسرة ، لقوله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن ) .
ذكر البخاري في « باب الإنفاق » أنه يجب الإنفاق على المرضعة لإرضاع الولد ، كما أن خدمة المنزل ليست واجبة على الزوجة ، كما في حديث السيدة فاطمة عندما أتت إلى الرسول تشكو إليه ما تلقى يدها من الرحي ) ، وكما في حديث أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنها : ( عندما تزوجها زبير وقوله والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه ، قالت حتى أرسل إلي أبوبكر بخادم يكفيني فكأنما أعتقني ) .
وحكى ابن بطال في صحيح البخاري قال : لا نعلم في شيء من الآثار أن النبي قضى على فاطمة بالخدمة وإما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق . أما أن تجبر المرأة على الخدمة ؛ فلا أصل له .
ونقل الطحاوي على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته ، وإذا احتاجت لمن يخدمها فامتنع لم يعاشرها بالمعروف .. ومذهب الجمهور ينص على أن للحاضنة الأم الحق في طلب النفقة على الحضانة .
نخلص من ذلك إلى أن القوانين المنظمة لحياة الناس وأحوالهم الشخصية مرنة لينة مطواعة وقابلة للتعديل وفق مقاصد الشريعة المعتبرة ، وهذا ما سعت إليه المملكة وهي تسير جادة لإصلاح الأنظمة وحفظ الحقوق ، وحماية المرأة من أصفاد الماضي وتسلط الرجل الذي يطلق ويختفي وتعيش المرأة في دوامة الطلاق وتبعاته .
لا بد من تعسير هذا الحق وتصعيبه وربطه بمجموعة من الإجراءات والتعويضات لصالح المرأة ولحفظ كرامتها . وتجعل الرجل يفكر ألف مرة قبل أن يتشدق بكلمة طالق .