لماذا وصلت الحضارة الغربية إلى هذا الحضيض ؟
كتب/ محمد الهيصمي *
وللأسف مايزال البعض منا يتغنى بالغرب وبحضارة الغرب وينادي باقتفاء أثار الغرب !!
ولو تتبعنا حالة الغرب حضاريا و فلسفيا منذ بداية تشكله قبل قرون من التاريخ لوجدناه وباختصار شديد قام على ركيزتين أساسيتين (العقل و الحرية).
والعقل بالذات نقصد به ما عناه الغرب و اعتنى به من مصادر معرفية دنيوية قوامها التجريب و المتابعة والاستنباط عبر مدارك الانسان الحسية المادية الصرفة دون التفات لأي املاءات خارج هذه الحواس والمدارك كالغيب و الوحي والماورائيات .. الخ.
أي باختصار أن الغرب قبل قرون أسسوا حضارتهم على ( العقل الانساني) فقط و سيعرف حضارته و نهضته بأنها (حضارة انسانية humanism).
أي أن ركيزتها الانسان و محورها الانسان و مصادر معارفها كلها الانسان وليس غير الانسان.
وحتى الظواهر الغير مادية في حياة الانسان كالدين مثلا يجب اخضاعها لعقل الانسان إما بايجاد تفسير علمي لها أو استبعادها من دوائر البحث وتصنيفها كأوهام من الماضي يجب تجاوزها ..
ومنذ عصر النهضةالأوربية أصبحت كل محاولات الفلاسفة لإنقاذ الدين وايمان اوروبا بإله تتم تحت غطاء علمي و تلتزم العلمية رغم سذاجتها وتناقضاتها عبر القرون التي وصلت حد الفضيحة احيانا والأمثلة كثيرة منها محاولة اثبات أن روح الله تملأ الكون المادي الذي هو جسده(وحدة وجود pantheism) بالاعتماد على بعض الكشوف العلمية كالإيثير الذي أتى به نيوتن ...الخ.
والحقيقة أن القول بأن الأديان السماوية ومنها الاسلام تدعو لاعمال العقل و تعلي من شأن العقل و توليه أهمية مركزية في حياة الإنسان ووجوده وحتى أن الايمان لا يكون الا بالعقل كالقول المشهور (ربنا عرفوه بالعقل) أو أن ابراهيم عليه السلام توصل الى وجود الله و الى دين الله الحق بالعقل عبر التأمل والتساؤل ... كل هذه مغالطات معرفية القصد منها اقتفاء الأثر الغربي في مسيرته الحضارية عبر القرون السالفة من عصر النهضة تحديدا وحتى ذروتها اليوم . وسيتم محاصرة كل طرح أو رأي مناهض أو مغاير كونه سيقف في الجبهة المناوئة للعقل.
بمعنى أن كل معترض على هذا التوجه سيكون في جبهة (اللا عقل)!!
فأن تعترض مثلا على مقولة (الاسلام دين العقل) يعني أنك تدعي أن الاسلام دين اللا عقل ... وهكذا ..
والحق أن الاشكال يكمن في تعريف العقل أولا عندنا نحن العرب بالذات كونه جاء من الفعل (عقل ) أي أدرك وعرف وبالتالي فكلمة (عقل) بوعي الانسان العربي تعني وتحيل الى كل مصادر المعرفة الممكنة.
بينما ما عناه الغرب بالعقل و العقلانية العلمية أو ما سيعرف ب (العلمانية) في مدلولها الابيستمولوجي الدقيق هو قدرات الانسان المعرفية المادية الحسية المتوفرة له في جسده وحواسه دون أي مصادر اخرى كالوحي والالهام وما اليه ..
و قد حصر الغربي نفسه بهذا العقل الانساني و قيد المعرفة به دون غيره و استبعد كل مبحث لا يمكن تفسيره من خلال هذا العقل كالأرواح و الجن .. الخ...
و الأوروبي وإن كان ادعى أنه عائد الى الدين من خلال العقل إلا أنه انجز ثورته ضد الدين و قوض مؤسساته و منضوماته المعرفية قبل المادية ..
فلا حديث بعدها مقبول عن النبوات والوحي لأن النبوات أصلا فعل من افعال العقل البشري(ابراهيم) ... وهكذا
ويمكن القول وفق هذا التعريف للعقل أن الدين هو مصدر معرفي فوق العقل يفسر ما لا يقوى العقل على تفسيره... (أظن ان هذه مسلمة في أدبيات الفكر الاسلامي).
وكل المحاولات والظواهر الصوتية الملحة عندنا نحن المسلمين مؤخرا تأتي في سياقات الغربنة و التغريب من هذا النوع .
شاهدت فيديو لمحمد شحرور - وهو نموذج لاخضاع ظاهرة النص القرآني للعقل وفق المبدأ الغربي- انتهى فيه الى أن الزنا هو ممارسة الفاحشة في العلن و أن ما استتر من الفواحش فليس بزنا ما دام باتفاق ورضا اصحابها...!!
هكذا تمسخ الفطرة و ناموس الأخلاق وضمير المثل التي لم ولن تكون من مفردات العقل الانساني الذي ابتدعه الغرب وانما من املاءات ماورائية من بقايا النبوات ووصايا الأديان في الشعوب كونها من مصادر(ربانية) فوق العقل ...
و أما العقل بالمفهوم الغربي فسيكون كل ما عن لصاحبه و طرأ في تفكيره..
بل وحتى سيكون من ضمن هذا العقل كل نزوة و كل رغبة وكل شهوة( الهوى بلفظ القرآن) كونها من املاءات العقل الانساني وصادرة عنه وإن كانت في حقيقتها انحرافات و شذوذ عن الفطرة و الطبيعة الانسانية .
ولن تحتاج املاءات العقل الانساني هذا و نتاج هواه من نزوات و شهوات لتغادر القفص الذي وضعتها فيه البشرية كانحرافات و شذوذات استثنائية مرفوضة .. لن تحتاج لتصبح في عداد الطبيعة البشرية و الممارسات الانسانية السوية إلا فضاء (الحرية) الذي ستضمنه دولة هي النموذج الأخير والأعلى لحضارة الغرب المتهاوية.
*أدبب وكاتب من مدينة إب وسط اليمن