قبل أيام، توعد عبدالملك الحوثي بإحداث تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة بالمناطق التي تحتلها مليشياته، على وقع تزايد الاحتجاجات الاجتماعية في صنعاء والمحافظات الأخرى شمالي اليمن. وقال الحوثي في كلمة له بالمناسبة الخاصة بجماعته (ذكرى مقتل زيد بن علي) في13 أغسطس الجاري:" نأمل أن نعمل على إحداث تغييرات جذرية، نحن نُخضِع الواقع الرسمي الآن للتقييم، وتشخيص الإشكالات... من الواضح أن واقعه يتطلب الإجراء لتغييرات جذرية، ولكن نحن الآن في حال التمهيد لذلك". لماذا الآن؟
يجيب عبدالملك الحوثي نفسه عن الأسباب التي دفعته لمحاولة إجراء تغييرات واسعة في مؤسسات الدولة بالمناطق التي يسيطر عليها، بالقلق من الاضطرابات الاجتماعية، التي يسميها هو مؤامرة وفتنة. وقال الحوثي: "في وضعنا الداخلي أتمنى أن يدرك الجميع أهمية العمل على الاستقرار الداخلي". ويقصد بالاستقرار الداخلي كما عرفه بنسه في ذات الخطاب المسجل عبر الشاشات: "إفشال كل مؤامرات الأعداء لإثارة الفتن في الداخل تحت عناوين متعددة، عناوين ومشاكل اجتماعية، سياسية، غير ذلك". احتجاجات في صنعاء دخل إضراب المعلمين عن العمل أسبوعه الرابع، بعزم شديد واستجابة كبيرة من قبل 150 ألف معلم وتربوي تقريبا في مناطق سيطرة المليشيا، لإجبارها على دفع المرتبات بانتظام. الخطوة التي قام بها نادي المعلمين دفعت آلاف الموظفين الآخرين للتضامن معهم، واستجاب غالبية المجتمع للإضراب، خاصة إضراب المعلمين باعتباره بارقة أمل لاستعادة حق ملايين الطلبة في التعليم. ووفق نادي المعلمين تجاوزت نسبة الإضراب 80% في مراكز المدن، وتزيد عن 90% في الأرياف وربما تصل إلى الشلل التام في بعض المديريات. بينما ينظم القطاع الخاص، وقفات احتجاجية واعتصامات متعددة، كانت محظورة قبل الهدنة. بالإضافة إلى شيوخ قبائل فضلوا اللجوء إلى العمل السلمي والتظاهر والاعتصام بعد تراجع نفوذهم واستغناء الحوثي عن خدماتهم في التحشيد والتجنيد أثناء الهدنة، وتزايد المطالب القبلية من قبائلهم لحماية أراضيهم وعقاراتهم وتجارتهم ومزارعهم من المصادرة والنهب. أما أمنيا فتشهد محافظة إب والجوف وذمار وعمران اشتباكات متواصلة بين القبائل ومليشيا الحوثي، أو بين فصائل حوثية متنافسة، في مشهد يكشف بوضوح عن اختلال واضح وتناحر متنام للصراع الداخلي بين قادة المليشيا على الموارد. وأدت عودة كثير من عناصر المليشيا الإرهابية المدعومة من إيران من الجبهات في ظل الهدنة، إلى إذكاء الاضطرابات والحروب الأهلية خاصة القبلية ضد الحوثي، نتيجة الفجوة الهائلة في توزيع الثروات واحتكار ثلة من قيادة الحوثي لمعظم الإيرادات مثل العقارات والمزارع والأنشطة التجارية. طبيعة الاحتجاجات لم تكن الاحتجاجات مشهدا مألوفا في صنعاء منذ سقوطها بيد المليشيا في 2014، ولكن بعد الهدنة واليأس من مسألة قدرة الحوثي على السيطرة على موارد النفط والغاز، فهمت قطاعات اجتماعية متعددة بما فيها القطاع الخاص وشيوخ القبائل وفصائل حوثية، وحتى قطاع واسع من الناشطين على وسائل التواصل وفي إعلامها. وأدى رفض عصابة الحوثي لتمديد الهدنة الأممية في أكتوبر الماضي، مع استمرار عناصر هذه الهدنة؛ إلى قناعة شعبية واضحة بانتهاء الحرب. وقال مصدر محلي في صنعاء لـ"يمن شباب نت" إن شعور انتهاء الحرب سائد حتى في أوساط عناصر جماعة الحوثي. بينما اعترفت صحف حوثية مثل المسيرة والثورة وعدد من وسائل إعلامها مؤخرا، بأن الغليان الشعبي والاستياء من طريقة الحكم الحوثية أثرت حتى على عناصرها في الجبهات، وفي معنوياتهم، وفي حجم التعبئة والحشد. وأدت هذه العوامل، مع عوامل محلية أخرى، وكذلك إقليمية ودولية، لفتح مجال لبدء مطالبهم الحقيقية، التي كانت محظورة من قبل بفعل الحرب في مشهد يذكر ببدء الحركة الوطنية مطالبها الإصلاحية بعد هزيمة كهنوت الإمامة أمام السعودية وبريطانيا في 1934م. بالنسبة لمحمد المقالح -وهو من أشد المناصرين للحوثي منذ بدء حربها المسلحة-، يعتبر المسألة في غاية الخطورة، ويجب الاستجابة لصرف مرتبات الموظفين في مناطق سيطرة الحوثي، ولم يعد كما كان من قبل. أما الصحفي في صحيفة الثورة الحوثية مجدي عقبة فقد قال مخاطبا المليشيا: "تحركوا قبل أن تندلع الاحتجاجات العارمة في ذكرى السادس والعشرين من سبتمبر". واعترف عبده بشر وهو عضو مجلس نواب موال للحوثي، -لكنه ينتقد بشدة حكم المليشيا في صنعاء بعد إقالته من وزارة الصناعة، ومنعه من تولي رئاسة ما بقي من مجلس نواب في صنعاء- بأن إضراب المعلمين صار موضوعا رئيسيا لدى قيادة الحوثي العليا. في اعتراف واضح بأن تأثير الاحتجاجات التي يقودها المعلمون قد أربكت الحوثيين. ومنذ مطلع الشهر الجاري، نشر الحوثيون عشرات المقالات والتقارير في وسائلهم الإعلامية تحذر من الفتنة والمؤامرة والاختراق وتفكك الجبهة الداخلية، وتسرد الرؤية الحوثية لمسألة المرتبات. عجز عبدالملك الحوثي في إحداث تغييرات بالنسبة لوائل البدري وهو ناشط مقيم في هولندا ومهتم بالحركة الحوثية، شكك بقدرة عبدالملك الحوثي على إحداث أي تغيير. وكتب البدري في صفحته على فيسبوك متسائلا: هل يستطيع الحوثي أن يتحرش بعش الدبابير؟ وأرفق صورة تحمل مجموعة من أسماء الأسر الهاشمية القوية التي استولت على مجموعة واسعة من المؤسسات الحيوية للدولة ومكنتها من بناء قوة هائلة لصالحها. بينما تحدث تقرير مكثف لمركز أبعاد للدراسات، صدر الشهر الماضي، عن وجود انقسامات واسعة في صفوف مليشيا الحوثي من مستوى القيادة الحوثية نفسها، تتعاظم أكثر في مستوى الصف الثاني والمحافظات، وحتى أقل من ذلك. واعتبر التقرير أن تحديات الانقسام داخلها هو واحد من أهم وأخطر عوامل فنائها. ويدعم هذا الافتراض ألقاب يطلقها القادة الحوثيون على أنفسهم، فأحمد حامد يسمى نفسه رئيس القطاع الإداري، بينما يسمى محمد علي الحوثي نفسه رئيس قطاع الأمن والعدالة، بينما شن حوثيون انتقادا حادا لعبدالعزيز بن حبتور باعتباره أشد المسؤولين في مليشيا الحوثي ضعفا، كما أنه مستبعد حتى من عضوية اللجنة الاقتصادية، وهي الحكومة الفعلية للحوثي في مناطق سيطرته. مصدر حوثي آخر كتب تعليقا ساخرا على خطاب عبدالملك الحوثي الذي توعد فيه بالتغيير: "أتوقع صدور أمر بالقبض على عبدالملك الحوثي". مع أن هذا التعليق ساخر، لكنه يوحي أيضا بطريقة صريحة ومباشرة إلى مستوى التنافس والخصومة على السيطرة والإيرادات بين كبار قيادات مليشيا الحوثي. وأزيد من ذلك، اعترف ذلك التعليق بطريقة غير مباشرة بعجز عبدالملك أو فقدانه السيطرة على مجاميعه في صنعاء. ساهم فيها غيابه الطويل منذ 2014 عن أتباعه. أما محمد المقالح فقد اعترف قبل شهرين بأنه أبلغ عبدالملك الحوثي في لقاء مباشر بينهما بكبار العتاولة والمفسدين من أصحابه الذين يحكمون صنعاء بالحديد والنار، لكن دون حدوث أي تغييرات. ومن أهم مظاهر الصراعات الخطيرة بين قيادات الجماعة مثلا: "عدم تعيين رئيس للجنة الاقتصادية الحوثية منذ فترة طويلة". كما أن الحوثي كان قد عين واحدا من أتباعه يدعى صلاح بجاش محافظا لتعز في المناطق التي يسيطر عليها، وسرعان ما عزله وعين شخصا آخر محله في المنصب، إلا أنه سرعان ما وصفه بالقائم بالأعمال، وما يزال المنصب شاغرا منذ فترة طويلة دون تعيين. الخلاصة:
في نهاية ديسمبر من السنة الماضية كان هناك اعتراف صريح من عبدالملك الحوثي بوجود نزاعات بين قادة مليشياته على المناصب والمؤسسات الإيرادية حتى بين الذين كان لهم دور كبير في سيطرة الجماعة وفق خطاب الحوثي نفسه حينها، واصفا الوضع الرسمي بأنه مزري وتوعد بالتغيير، ولكن على مستوى الخطاب والوعود، ولم ينفذ منه شيء، في مؤشر إضافي على عجز الحوثي عن السيطرة على جماعته. أكثر من ذلك قال عزام صلاح رئيس كتلة المؤتمر في ما بقي من مجلس نواب داخل صنعاء (لا يتجاوز عددهم 25 عضوا من أصل301 وهو فاقد للنصاب والشرعية الدستورية) إن حكومة الحوثي في صنعاء لا أمل لها في البقاء، خاصة مع تصاعد ضغط الاحتجاجات والإضرابات التي يقودها المعلمون، إلا بصرف المرتبات. كان صلاح قد حذر قبل حديثه من أن تعود الجماعة لاتهامه بالتآمر والارتزاق، في مؤشر واضح الدلالة والبروز على حجم الفجوة بين ما بقي من حزب المؤتمر بصنعاء ومليشيا الحوثي. وتبقى الأيام المقبلة مؤشرا مهما على حجم القدرة والنفوذ الذي بقي يحتفظ به عبدالملك الحوثي على تيارات وفصائل مليشياته المتناحرة، غير أن المؤكد أن جماعته صار تهديدها الأشد خطورة يأتي من الشعب في الداخل، وتحركاتهم الاجتماعية والسلمية لانتزاع حقوقهم.