رحلة الانتهازيين... من "الوحدة أو الموت" إلى "الاستقلال أو الموت"
محمد جميح
من أغرب الغرائب التي يمكن أن يرصدها مراقبو المشهد السياسي اليمني المعاصر رؤية شخصيات كانت أمس تتعصب لمعسكر "الوحدة أو الموت"، وهي اليوم تتخندق تحت شعار "الاستقلال أو الموت". كانت تلك الشخصيات مع "وحدة اليمن" التي حولتها إلى مشروع تجاري، ولما أُنهِكتْ الوحدة لكثرة استهلاكها تحولت الشخصيات المذكورة إلى مشروع استثماري آخر هو "استقلال الجنوب". لم تكن تلك الشخصيات الزئبقية صادقة في شعارها "الوحدوي"، لأنها كانت تهدف للهيمنة على ثروات الشمال والجنوب، ولم تكن صادقة في شعارها "الاستقلالي"، لأنها كانت تروم الانفراد بسلطة الجنوب وثروته. لو أنهم آمنوا بالوحدة مبدأً لما استغلوها ثم تحولوا عنها بعد أن أنهكها جشعهم، ولو أنهم آمنوا بالاستقلال مبدأً لما كدسوا الثروة وراكموا السلطة باسمه، وسوف يتحولون عنه إن ظهر لهم مشروع نفعي جديد. لقد أُصبنا في اليمن-شمالاً وجنوباً-بسياسيين لا يحملون طهر الأجيال التي طردت المستعمر البريطاني من الجنوب، والإمامة الكهنوتية من الشمال، وناضلت من أجل تحقيق الوحدة اليمنية، التي حولها هؤلاء السياسيون النفعيون إلى مشاريع تكسُّب أضرت باسمها بكل أسف. ونحن اليوم نعيش الذكرى الثلاثين للوحدة اليمنية يجب أن نركز على حقيقتين مهمتين: الأولى أن الوحدة-في حد ذاتها-ليست مسؤولة عن ممارسات الوحدويين الزائفين الذين أضروا بصورتها، والثانية أن البديل عن الوحدة لن يكون بكل تأكيد ذلك المشروع الشوفيني العنصري الذي تتبناه مليشيات منفلتة في عدن، مليشيات خرج الناس اليوم للتظاهر ضد ممارساتها التكسبية باسم الجنوب، والتي لا تختلف عن ممارسات الوحدويين الزائفين في صنعاء، الذين يشكلون الوجه الآخر للاستقلاليين الزائفين في عدن، أولئك المزيفون الذين يمكن أن يكونوا وحدويين حيث تعني الوحدة النهب والسلب والبسط على الأراضي والممتلكات والثروات والمناصب والسلطات، ويمكن أن يكونوا استقلاليين كلما كان الاستقلال ممثلاً للمطامع ذاتها. من حسن الحظ أن المشاريع التسلطية باسم "استقلال الجنوب" تسقط اليوم، كما سقطت المشاريع التسلطية باسم "وحدة اليمن"، ليتاح المجال أمام الإرادة الحرة لليمنيين شمالاً وجنوباً نحو خيارات حرة بعيداً عن إملاءات زعماء المليشيات ولوردات الحروب في الشمال والجنوب. وبهذه المناسبة، يجدر القول إن على الذين يسعون لتقسيم اليمن خدمة لمشاريعهم الضيقة أن يعرفوا أنهم يرتكبون جريمة في حق دولة عضو في الجامعة العربية و"التعاون الإسلامي" والأمم المتحدة، وغيرها من الهيئات والمنظمات العربية والإسلامية والدولية. وإنه لمن المعيب أن نرى تلك الهيئات والمنظمات تؤكد على وحدة اليمن، فيما تسعى بعض الشخصيات والكيانات اليمنية وبدعم من خارج الحدود لتقسيم بلد تم توحيده بإرادة حرة جماهيرياً وسياسياً. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن ما يراد اليوم ليس فرض الوحدة بالقوة، كما تروج بعض الأطراف، ولكن يراد فرض الانفصال بالقوة، الانفصال تلك الكلمة التي حاولت الشخصيات الزئبقية المذكورة أن تُجمّله بتسمية أخرى، هي "الاستقلال"، الذي أرادوه وسيلتهم الجديدة للاستثمار على حساب اليمنيين في الشمال والجنوب. واليوم أو غداً ستذهب مشاريع الانفصال الطائفي في الشمال، ومشاريع الانفصال التشطيري في الجنوب مع الريح، وسيبقى اليمن ما بقيت الكتب المقدسة التي ورد ذكره فيها قبل أن تولد كيانات كثيرة، ودول كبيرة في هذا العالم المليء بعِبَر التاريخ وحِكَم الزمان