كي لا يعود الجزار

سام الغباري
الخميس ، ٢٢ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٢:٥٨ مساءً
مشاركة

قبل ألف ومائتي عام اقتحم اليمن رجل من طبرستان اسمه " إبراهيم موسى " وقد اشتهر بلقب الجزار ، كان تائها على بغلة شهباء تجره في صحراء الربع الخالي باحثا عن الدم ، متعطشا الفتنة والتمرد ، وقد كانت تقليعة تلك الأيام الضائعة أن من أضاع نسبه اخترع نسبا يوصله إلى علي بن أبي طالب

وصل " الجزار " إلى حدود اليمن القديم ، مارس الكهانة ولوى أعناق أتباعه بهوية " إيمانية " ، فجاءه المريدون والعصاة والمجرمون المطلوبون لشرطة الدولة العباسية آنذاك ، وانضموا إليه لتحقيق لاستعادة ملك ضائع يجعلهم المشرفين والحكام على بقية الأمصار والقرى في اليمن الحزين ، فيأخذون خراجها ويغيرون على قبائلها الإخضاع اليمنيين بالقوة ل " ولاية " قاتل بلا هوية ، ومع هزيمته وهروبه ، وصل النبأ الصاعق : لقد تم تعيينه واليا شرعيا على اليمن بأمر الخليفة العباسي " المأمون " ! 

إنها الحيلة القديمة ما زالت تتكرر إلى اليوم ، ضعف الحاكم واهتزازه وجهله بالتاريخ والدين والحقوق الجماعية للأمة أطمع العلويين الذين حصروا - في وقت لاحق - الهاشمية فيهم ، أن ينقضوا على العرش ، فإن الجماعية للأمة أطمع العلويين الذين حصروا - في وقت لاحق - الهاشمية فيهم ، أن ينقضوا على العرش ، فإن لم يجدوها سانحة عاشوا في بطانة الحاكم ضخم المسؤولية والمساحة .

ومثلهم لا يقوى على العيش خارج أسوار القصور . ذلك يقربهم من موقع القرار ويواسي وظيفتهم ک " تام احتياطيين " ينقذون من البلاط سلسلة تحالفاتهم وصفقاتهم وتفاهماتهم السرية مع أركان الدولة ، حتى يكونوا البدلاء الإفتراضيين لأي سقوط لخليفتهم المفدى ، وعندما يطول الأمد ويتمدد الانتظار عقودا وعهودا ، ويتسلل اليأس من افتراس الخلافة إلى قلوبهم ..فتحوا أسوار " العاصمة " للمغول ! * * *

بالقرب من دوحة غناء في بلاط الخليفة المأمون ، حيث يقع قصر الحكم على ربوة خضراء في ضواحي بغداد ، كان " علي موسى " الشهير ب " الرضا " ، وهو شقيق " جزار اليمن " ، يجرد الخليفة من عباسيته قطعة قطعة ، اقترب منه ، أغواه ، أقنعه بالتخلي عن ردائه العباسي الأسود ، وارتداء القماشة الحسينية الخضراء ، لما للرداء من خصوصية وهوية ، حدثه عن الحسين بن علي حتى اخضلت لحيته ، حكى له عن الجنة التي تنتظره إن ترك سلطته للعلويين أحفاد علي بن أبي طالب !، كان ساحرا ، مقنعا ، والمأمون حاكما لم يقرأ كتابا في حياته ، فطريق المعرفة يمر من أذنيه ، يريد أن يسمع لا أن يقرأ . 

كسل الحاكم عن اكتساب المعرفة يودي بحكمه إلى البقاء أسيرا في أيدي بطانته ، تسيره كيف تشاء ، الم يراوده " الرضا " عن كرسيه في حذق علوي ماهر ، أغرقه بالسحر حتى لم يجد مخرجا إلا أن يقترح بنفسه على کاهنه بولاية العهد ليرضى عنه النبي ، ويسلم الخلافة " المغتصبة " إلى أهلها ؟، كانت تلك سابقة في فكرة الدولة العباسية التي قاتلت تمرد العلويين بشراسة ، ونالت شرعيتها من دم الأمويين ، ولاحقتهم وكادت أن تفنيهم ، إلا أن سحر " علي موسى الرضا " دخل في عظم المأمون و أقنعه بالتخلي عن سلاحه وهويته العباسية ، وحول أخاه المتمرد على الخلافة في اليمن إلى حاكم بأمر العباسيين !، حتى إذا ارتد المأمون عن مرسومه بجعل ولاية العهد في العلويين أقبل عليه شقيقه " ابراهيم الجزار " بجيش غاضب من اليمن يقتلع عباسيته وخلافته ، ويرسي الأمر للعلويين في خلافة واسعة النطاق والنفوذ على امتداد العالم الإسلامي ، إنه الحلم الذي لم يتحقق حتى اليوم . أفاق المأمون بعد أن عزله من السلطة أقاربه الذين هرعوا لتعيين عمه في مكانه ، وتسميم علي الرضا ، فعاد إلى بغداد عباسيا جديدا ، وقد أدرك اللعبة الشهيرة التي أتقن العلويون تجسيرها وما يزالون حتى اللحظة .

بقي الحلم العلوي في الحكم معلقا في أرحام النسوة ، وأذانا يلقنه الهاشميون لمواليدهم قبل تكبيرة التوحيد ، فتناسلوه وتناقلوه ودخلت الدول الإسلامية في حكم عباسي صوري باسم المماليك ، وبدأت الخارطة الكبيرة بالتداعي بفعل قضمات العلويين والفاطميين .

وكانت اليمن التي أسلمت دولتها إلى مركزية " قريش " بعد الإسلام تصارع لاستعادة حدودها بعد انهيار الخلافة العباسية ، في ذلك الزمن الرديء ظهر الخميني الأول : یحیی حسین قاسم طباطبا معرقا نفسه ب " الهادي إلى الحق " ! ومشرعا في تشكيل حكم قائم على السيف والردع والتدمير لمن ينكر " هادويته " في مجتمع تم تصنيفه " كافا " بلغة الرجل الأكثر دموية في التاريخ الإنساني القديم خلطة المذهب الانتحاري التي تذوقها اليمنيون لأول مرة في تاريخهم رفعت منسوب الفتنة والصراع إلى ذروته ، حين شعر " طباطبا " القادم من مجاهل التاريخ أن هذه البقعة الجغرافية المتحمسة للقتال قد تكون ذخيرته البشرية التي يحركها باتجاه الشمال لانتزاع الأراضي المقدسة في الحجاز وضمها إليه بالقوة ، وإخلائها من سلطة العباسيين المتهاوية .

كانت أحلامه تتبخر عقب ظهور المقاومة الفطرية الشرسة ، فدين الهادي الجديد لم يكن دين الإسلام على أية حال ، ذلك ما أدركه اليمانيون في حميريتهم الإنسانية ، وفي تلمسهم الدائم المبادئ الكتاب المقدس الذي ظلت معاييره " الرحمانية " معروضة على أي رسالة إلهية تصلهم عبر الرسل الحقيقيين فيتبعونهم امتثالا لعبودية الله تعالی عرف يحيى الرسي أو يحيى طباطبا أنه ضعيف أمام القبيلة اليمنية المؤمنة ، فعاد إلى ابن عمه " محمد بن الحسن الطباطبائي " صاحب طبرستان وحاكم منطقة يقال لها " بحر الخزر " ، فأغار على اليمن في 284 هجرية بستة آلاف محارب طبري ، وسانده في حربه من الداخل بقايا الفرس في صنعاء الذين جلبتهم الدولة الفارسية النصرة سيف بن ذي يزن ، وتوالى المدد إليه حتى وصل في 292 هجرية إلى خمسة عشر ألف محارب طبري ، انتسبوا بعد دخول صنعاء إلى الهاشمية مكافأة من الهادي !

أضاف الغازي الجديد مذهبه على أقوال زید بن علي المنتشرة في أسواق الوراقين فدمعه بتفاصيله وشروحه وفقهه العجيب ، حيث أرسى مبدأ حيوا سمعه في جبال طبرستان ولا تقوم الهادوية الزيدية إلا به وهو " ولاية البطنين " كعقيدة لا يتم الإسلام إلا بها .

ولجأ إلى الشعوذة والكهنوت والمال ، واستخدم ببراعة التناقضات الفقهية بين مذاهب المسلمين التي ما زالت تفور مسائلها على تنور الخلافات والصراعات ، ملقية بخيبتها على الحكم المركزي في بغداد ، فلم يخب أوارها في لحظة إلا باستعمال العنف المفرط ، وقد كانت تلك إحدى أدوات الخلفاء الذين طربوا لسماع أصوات اليمنيين المفجوعة من التنكيل والقتل . وقد تعلق الرأي العام الإسلامي حتى 1921 م بظنون عدم جواز الخلافة في رجل ليس من قريش ؟

إن الهوية اليمنية واستعادة مجدها الإنساني ستلغي المفاهيم التشطيرية بين شمال وجنوب ، ويمن أعلى ويمن أسفل ، وزيود وشوافع ، لا شيء من ذلك سوى أننا نعيش في بلد واحد له حضارة عظيمة ، يجب أن ننتسب إليها بحكم جنسية الإقامة داخل حدوده الجغرافية ، وسيصبح العبور خارج هذه الهوية احتيال ملغما ، انفجر في الماضي ، وتفجر اليوم وهو مستعد للانفجار في أي لحظة طائشة يحملها المستقبل في وجوه أحفادنا الأبرياء .

فيعود الجزار ليذبح أطفالنا مرة اخرى ويخرجهم بعيدا عن موطن أسلافهم .