لدينا إشكالية عميقة، في فهم معنى أولويات الإنفاق، والتصرف في المال العام (ضع ألف خط تحت المال العااااام).. فيما مضى -وما مضى ليس ببعيد- كنا نهدر قسطا من مواردنا -الشحيحة أصلا، والمنهوبة- في احتفالات لا طائل من ورائها، بدليل أنها لم تعد علينا بأي فائدة ملموسة حتى اليوم. منها -مثلا، لا حصرا- الاحتفال بأعياد الثورة، وعودة الزعيم الفلاني، والمسؤول العلاني (هل تذكرون كيف أضاء ليل صنعاء حد الفزع بنيران الأسلحة الثقيلة؛ احتفاء بخروج الزعيم من غرفة العناية الفائقة؟ وكم نفسا أزهقت أو جرحت ليلتها بسبب الراجع من السلاح؛ ناهيك عن الرعب الذي لحق الكثيرين في تلك الليلة -هؤلاء نختصمهم عند الله حين تجتمع الخصوم-. وهل تذكرون اللوحات التي ملأت شوارع صنعاء احتفاء بعودة باجمال من رحلة علاجية أو شيئا من هذا القبيل -لا أذكر-). ويستمر سفه الإنفاق اليوم، كما كان بالأمس وأكثر، وإهدار الموارد المحدودة جدا، والشحيحة أصلا، في احتفالات المولد النبوي الشريف، وتفرض الإتاوات على أصحاب المحلات وغيرها، والرسول الكريم بريء من هذه الاحتفالات الشكلية، فأمته جوعى، وفقراء، ومطحونين، ووجلين، وخائفين، وغابت عنهم أبسط معاني الكرامة الإنسانية. كل ما حدث بالأمس، ويحدث اليوم سببه -في المقام الأول- "اغتصاب" السلطة من الشعب، ومن ثم التصرف في المال العام دون رقيب أو حسيب، أو خشية من أحد، فالكل مغلوب على أمره بسلطة القهر، وقوة السلاح، والسلطة الغاشمة. في البلدان التي يوجد فيها قوانين ودساتير، وشعب تستمد منه السلطة الحاكمة مشروعيها، لا يمكن التصرف بريال واحد من خزينة الدولة دون موافقة المجالس النيابية وغيرها، ويعملون بمنطق (كن بخيلا بمال غيرك)، المال العام، الذي مصدره دافع الضرائب، يذهب لما فيه فائدة الناس الذين يدفعون هذه الضرائب. أيهما أولى بالإنفاق: المظاهر الاحتفالية الفجة بالمولد النبوي، أم إطعام مسكين، وسد رمق جائع، وصرف مرتب لموظف مطحون بدون راتب منذ أكثر من خمس سنوات، أو توصيل مشروع مياه لقرية نائية لا يتوفر لسكانها ماء نظيف صالح للشرب، أو شق طريق لقرية منعزلة، أو مشروع مجاري في عاصمة تفتقر معظم أحيائها إلى اليوم لهكذا مشروع، وقائمة أولويات الإنفاق تطول، في بلد يطحنه الفقر (أكثر من 80% تحت خط الفقر، ويعيشون على مساعدات)، ويعيش أكبر مأساة إنسانية، ولكن كل هذا لا يراه من في السلطة اليوم، ولا تذهب إليه الموارد!! الاحتفال الحقيقي بالمولد النبي الشريف، هو أن نجسد منهجه (صلى الله عليه وسلم) في حياتنا، أن نرى: مساواة بين الناس كافة، لا فرق بينهم لأي اعتبار كان، أن نرى عدلا، وإنصافا، وكرامة إنسانيه، وتكافلا، وتراحما، وقانونا يسري على الجميع، وما عدا ذلك، فهو زيغ عن منهج النبوة، واستمرار لإهدار المال العام، وكلها تقودنا إلى تخلف عن ركب الأمم. دعك من خطاب "الأنا" المتضخم، فهذا كله جعجعة فارغة، لا تقدم وظيفة لعاطل، ولا لقمة لجائع، ولا ملبسا لعار، ولا مسكنا لنازح أو مشرد، ولا علاجا لمريض، ولا تعليما لطالب، ولا كرامة إنسانية لمخلوق اختصه الله بها [ولقد كرمنا بني آدم]! أبسط معاني هذه الآية: تحقيق عيش كريم للإنسان.. حققوا أبسط معاني العيش الكريم الذي أمر الله به، ثم احتفلوا بعد ذلك كيفما شئتم! لله الأمر من قبل ومن بعد.. والله غالب على أمره