مضت خمس سنوات حرب في اليمن أدرك فيها اليمنيون ان الصراع ليس بجديد بل نشأ منذ عقود. الخلاف الرئيس في اليمن كان ولا يزال هو الصراع بين المنهج الزيدي للحكم الذي اتخذ أشكالا كان أبرزها الملكية السياسية (منذ القرن السادس عشر وحتى ثورة سبتمبر 1962) وبين طموحات الدولة الحديثة المتمثلة بحركة الجمهوريين منذ 1962. بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر ساد المشهد اليمني العديد من الأحزاب السياسية المتنوعة في حين انخفضت وتيرة الصراع الأساسي بين الملكية والجمهورية. تناس اليمنيون الصراع الأساسي بين النظامين الملكي والجمهوري بل وبدا وكان اغلب الأطياف الاجتماعية الراعية للنظام الملكي اندمجت في إطار النظام الجمهوري مشكلة بذلك الجمهورية اليمنية الحديثة ولكن لم ينته هذا الصراع وعاد في الظهور تدريجيا بحلل مختلفة خلال العقدين السابقين بدءا بحزب الحق ومن ثم حركة الحوثيين الانقلابية. إن المهاترات السياسية لا تعني الغالبية العظمى من اليمنيين فالمراقب لأوضاع اليمن سيدرك أن مكونات الحياة الأساسية والعيش الكريم هي اقصى طموحات الأسرة اليمنية. ورغم ذلك فإن الصراع بين النموذج الزيدي للحكم، او بالأحرى الهاشمية السياسية التي يتبعها الحوثيون، والنموذج الديمقراطي الجمهوري هو ما يحدد مصير السلام في اليمن.
لقد فشلت محاولات السلام منذ 2015 لسببين رئيسين: أولا: لتجاهلها العمق التاريخي والاجتماعي للصراع بين الجمهورية والملكية وفشل الحكومات المتعاقبة منذ الستينات على معالجة أسباب هذا الصراع. بالرغم من انجازات الاستقلال والوحدة فالنظام الجمهوري ظل متناقضا مع الفكر السياسي الزيدي القائم على ملكية السلالة الهاشمية. من اهم أوجه الاختلاف بين النظامين هو مصدر شرعية الحكم فالحوثيين منذ بدايتهم ايقنوا أن الجمهوريين يقومون بتهميش الهوية الزيدية القائمة على شرعية أهل البيت من خلال وضع السلطة في أيدي قبائل وأفراد معينين بالإضافة الى إعطاء الوهابيين فرصة للازدهار في اليمن. علاوة على ذلك، يعتقد الحوثيون ان الجمهوريين سلبوا أحقية السلطة من اهل البيت والزيود بعد ثورة سبتمبر. أما الحقيقة فهي أن الوهابيين وبعض افراد القبائل كانوا يقدمون الدعم المالي والسياسي لبعض القيادات ولكن لم يكن النظام الجمهوري بأكمله تابعا للفكر الوهابي او مبنيا على ولاء القبائل. العديد من الوزراء والقوى السياسية في اليمن كانت تنتمي إلى الكتلة الزيدية والبعض الأخر كانوا مستقلين عن القبائل ومع الأسف برزت حركة الحوثيين بناء على تلك مجمل هذه الأسباب فالبعض منها اجتماعي قبلي والأخر سياسي.
بدأ الحوثيين حركتهم التمردية من خلال ادعائهم لإعادة إحياء الهوية الزيدية السياسية ولكن سرعان ما تبنوا المنهج السياسي الإيراني الثوري بعد رفض اليمنيين لمنهجهم الفكري والسياسي وبذلك أعاد الحوثيون إحياء صراع الحكم بين الزيدية والجمهورية وبالإضافة الى تقديم انفسهم كهاشميين، وضف الحوثيون الهجوم السعودي لمصلحتهم بوصفه عدوانا على اليمن وشعبه يجب الدفاع عنه وبذلك تكون لهم حجة إضافية للاستمرار في الانقلاب. اتخذ حينها الصراع التاريخي بالنشوب مرة أخرى بعد 2014 في ظل ضعف سيادي لم تستطع الجمهورية احتواءه. الصراع الان يشبه كثيرا الصراع التاريخي بين الملكية وبين الجمهورية فالحوثيون يدعون احقيتهم وأحقية الهاشميين لحكم اليمن الذي للأسف لم يستطع حكامه الجمهوريون من إيصاله الى امكانياته المدنية والسياسية. وطبعا لا ننسى النسيج الاجتماعي لليمن فقد تداخلت الخيوط السياسية والقبلية في كلا الجانبين حتى يتشكل لنا الصراع بين الملكية والجمهورية مجددا في حرب مستعصية على الجميع لا نعلم فيها الولاءات الحقيقة للأطراف المتصارعة ولا حقيقة الأطراف الخارجية حيث يتقاتل أبناء الأسرة الوحدة وأبناء حزب سياسي واحد في حين يستفيد أرباب الحروب والمساعدات الإنسانية من معاناة اليمنيين.
ثانيا: فشل السلام بسبب وجود أزمة سيادة مستعصية لم يستطع اي طرف او مكون سياسي فرضها. لقد كان ولا يزال الخلل الأساسي في اليمن هو عدم وجود سيادة فاعلة لأي حكومة حكمت اليمن؛ ففي الشمال حكم الجمهوريون ومن ثم مجرد اقلية من آل الأحمر بقبضة الأسد وتجاهلوا الهويات القبلية والدينية المتعددة في اليمن وغياب الهوية السياسية الجامعة، وبذلك كانت سلطة اليمن الشمالي متركزة في اسر وقبائل معينة دون أن يكون لها أي سيادة اجتماعية لجميع قبائل ومجتمعات اليمن بما فيهم الحوثيون. وفي جنوب اليمن انهمكت التيارات اليسارية في صراعات ما بينها البين في ظل اعتماد أعمى على الاتحاد السوفيتي الواهن. وفي زمن الوحدة ظلت أجهزة الدولة الحيوية بما فيها القوات المسلحة تابعة لفئة معينة تتلاعب بأجهزة الدولة من أجل مصالها الشخصية. ورغم قبضة الجمهورين على السلطة، وبناء دولة يبدو وكأنه انصهرت فيها مكونات المجتمع اليمني، إلا أنه لم يتضح مدى ضعف سيادة النظام الجمهوري وفساده الا بعد ثورة 2011 حين بدأ العديد من الأفراد والجماعات المدنية أو المسلحة على حد سواء بالرضوخ الى الحركة الحوثية الانقلابية. الخلاصة ان الحكومات اليمنية كانت اداة سياسية لا حوكمية تابعة لقلة سياسية لم يعترف بها الحوثيون لأسباب سياسية واجتماعية فقرروا الانقلاب عليها مستغلين الخلافات القبلية. انقسمت المكونات الحزبية والسياسية واصبح اليمن عرضة للدمار الاجتماعي والسياسي بسبب هذا الصراع المستمر منذ عقود بين الزيدية والجمهورية.
شبه العديد من الخبراء والإعلاميين اليمن بالدولة الفاشلة أو الضعيفة. في العلاقات الدولية والقانون الدولي هناك نقاش حول الخصائص التي تميز دول الصراع مما يفتح باباً للمناظرة حول كيفية مشاركة الأطراف المتنازعة للحكم؛ وبالفعل فمحاولات السلام، بما فيها وثيقة الحوار الوطني، تركزت على البحث عن تلك الخصائص وتطبيقها في اليمن. بالرغم من ضرورة مناقشة هذه الموضوعات إلا أنها تفتقر الى العنصر الأساسي لأي دولة حديثة وهو كيفية خلق سيادة للحكومة الوطنية تطبق على المكونات الاجتماعية والقبلية الى جانب المكونات السياسية غير متنازع عليها وغير مشكوك فيها. لدى اليمن العديد من الهويات الدينية والسياسية والفكرية التي سعى الحوثيين على تفكيكها بل واستطاعوا ذلك في غضون أعوام قليلة نظرا لعدم وجود رؤية سيادية لحكام اليمن ونظرا للضعف المستدام في أجهزة الدولة بما فيها القوات المسلحة التي سرعان ما أظهرت أن ولائها للقبيلة وليس لليمن الجمهوري. على اليمنيين إدراك أهمية السيادة الوطنية والدور التي تلعبه غياب هذه السيادة في تأجيج صراع قديم استغله الحوثيون لمصلحتهم. لا مخرج من هذا الصراع إلا بالعدالة الاجتماعية وتطبيق نظام حكم سيادي يماثل التركيبة الاجتماعية وليس السياسية فقط. غياب السيادة الاجتماعية أثر بالسلب على فاعلية الحكومة الشرعية أبان تسليم السلطة في 2012 فلم تتمكن تلك الحكومة من ادارة مشاعر الجنوبيين ولا حتى تحييد القوات المسلحة. إن السلام في اليمن ليس قريب، ولكن يمكننا أن نبدأ بفهم ماهية الصراع التاريخي وتجدده وكيف تستفيد منه الأطراف السياسية الجديدة في ظل غياب نظام حكم اجتماعي يفرض سيادته على الأرض والشعب.