البارحةَ حضرتْ ليلى العامريةُ من "مضارب بني عامر" إلى المقهى الذي يتناول فيه الدرويشُ قهوة المساء فوقَ نهر "التايمز" قريباً من برلمان "وستمنستر"، وسط لندن. كانت ليلى قد وصلت لندن الأسبوع الماضي، لتحضر "مهرجان نوتنغهل غيت". روائح الشِّيْح والعَرار النجدي، مخلوطةً بـ"مشاقر" الريحان، مع بخات من "شانيل" خفيف تنبعث بين خصلات شعرها العربي الروح. أنيقةً بهيةً، كمهرة عربية تتهيأ للدخول في سباق الخيول، كانت ليلى عندما دَلَفتْ المقهى المُعَلَّق في النقطة الفاصلة بين الليل والصباح. طلبتْ قهوة عربية، لكن النادلة القادمة من أمريكا اللاتينية اعتذرت لعدم تقديم المقهى ذلك النوع من القهوة، ما اضطر ليلى إلى أخذ فنجان من "اللاتيه". حضرتْ "مايا" الغجرية التي عادت إلى لندن قبل يومين من رحلتها إلى رومانيا... وحضرتْ "كيميا" من "قونية"... حضر مولانا جلال الدين الذي أشار للدرويش لكي يبدأ رقصته الدائرية... دار الدرويش دورة فدارتْ معه النادلة... ثم دار فدارت القهوة... ودار في حركات مموسقة إلى أن دار معه زبائن المقهى ونزلاء الفندق المجاور، والمارّة على الرصيف... ودارت ليلى... ظل الدرويشُ يدور إلى أن هبطتْ الراعية على بساط من أوراق اللبلاب... حينها دار لحن سماوي بلون الجنة، وأخذت الراعيةُ تدور دورات مدهشة، ودارت معها "نوتنغهل غيت"، وحضر أهالي لندن على ضفتي النهر يشاهدون أعظم فقرات المهرجان.
بدأ الدرويش يسرع من إيقاع رقصته ويهذي في حضرة الراعية: دارتْ كؤوسي فَهِمْتُ وَجْدا وصِحْتُ لمَّا سَقيتموني واللهِ إني لكم مُحبٌ وعَبْدُ رقٍّ فواصلوني
وهتف من بين الحشد صوتٌ اخضلَّتْ حشرجاته: لَمَعَ البَرْقُ اليماني من حبيبٍ قد سَباني وتذكرتُ اجتماعاً فشجاني ما شجاني واتجه الدرويشُ في حركات راقصة جهة الراعية، متمتماً: "رأيت ظبياً على كثيبٍ شبيهَ بدرٍ إذا تلالا فقلتُ ما الإسمُ قال نورٌ فقلتُ صِلْني قال تعالا..." وفجأة تجلَّتْ الراعيةُ وحدها تهمهم: مدد...مدد وخلع النهر ضفتيه وأقبل إليها يدور حولها، وهي تدور حول نفسها، والمقهى ولندن والدرويش يدورون حول النهر... صعدت الراعية رويداً...رويداً إلى الأفق الذي بدأت خيوط النور تتفتق من ثوبه الداكن... صعدت الراعية وصعدت وغابت وراء حمرة أرجوانية مثل كثبان "صيهد"... تاركة الدرويش يدور حول نفسه، والعالم حوله يدور، بحثاً عن الراعية في كل مكان...