كلما شرعت بالكتابة حول هذا الموضوع، أُطلق تنهيدة ثم أتوقف، فالحديث ذو شجون، والجانب الأكثر إيلاماً فيه هو المتعلق بنا نحن، وليس بالحوثي أو بالإمامة.
أحتاج أن أشرح الكثير لكي أقنع بعض الرفاق الذين التحقوا بمعركة الجمهورية من منتصفها، بأن يقرأوا المشهد من أوله، فلقد عشته يوماً بيوم، منذ الأسبوع الأول في الحرب الأولى في صعدة عام 2004، والتي كنت أسمع مدافعها في نشور والرزامات.
مشكلة الكثيرين، أنهم كانوا يظنون أن اللعبة من أولها إلى آخرها هي لعبة علي عبدالله صالح وأن الحوثيين صناعته، غير مدركين أن هذا المشروع العنصري البغيض عمره أكثر من ألف عام، وأنه أسقط في حقب سابقة أنظمة كانت أقوى من نظام صالح، ولم يصنعوا بعدها سوى الخراب.
ولقد صارعت كثيراً خلال الحروب الست، عبر صحف المعارضة، أحاول إيضاح ما هو الحوثي، ومستنكراً وصف المعارضة المتكرر لإخماد التمرد في صعدة، بأنها حربٌ عبثية. ويقيني أن المعارضة لو وقفت موقفاً مسؤولاً إلى جانب الحكومة خلال إخماد التمرد لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لكن حسابات السياسة عبثت بثوابت السيادة، وكان كل همهم ألا يقال إن صالح كان على حق، حتى المدركين منهم لخطورة الحوثي.
عذراً إن حشرت نفسي بالسياق فلقد كنت شاهداً على مرحلة.. كنت أؤيد صالح كلما أظهر حزماً في مواجهتهم، ثم أسلخه بمقالات قاسية كلما تراجع، وعندما أطلق في يوم 26 سبتمبر 2009، خطاباً قوياً يدعو فيه كل القوى الوطنية ألا تتأخر عن الإسهام في إحراز النصر على مخلفات الإمامة في صعدة. يومها قلت فيه بعض الأبيات مفتتحاً إياها ببيت للشاعر الجواهري، من باب التحفيز الواجب في موقف كهذا:
"إضرب فإنّ على الجناة جناحهم فيما جنوه وما عليك جناحُ"
واضرب ففي جنبات صدرك مهجةٌ شمّاءُ من أشواقنا تنداحُ
والواهمون لهم غيابة وهمهم ولهم شنار القادمات وشاحُ
يتأخرون وأنت أول واصلٍ يتقهقرون وأنت لا تنزاحُ
والحق أبلجُ في جبينك ساطعٌ فإذا زأرت فكلهم أشباحُ
فليرقد الكهنوت في تابوته مهما أبوا أو ألبوا أو ناحوا
لهم الصغار وأنت مجدك في الذرى أسدُ الوهاد وفجرها الوضاحُ
سارت احتجاجات 2011، بطريقة لا تهدف إلى إبعاد صالح من السلطة فحسب، بل لتجريده من كل رصيد معنوي ومن كل إيجابية صنعها. تم تصوير مواجهته لتمرد الحوثيين وكأنها واحدة من "جرائمه"! وتحولت ثورة الشباب، بدون قصد من الشباب، إلى مغسلة لجرائم الحوثيين وكذلك أيضا مؤتمر الحوار. وأنا في هذه الجزئية لا أبرر له أبداً تحالفه مع الحوثيين للانتقام من قوى الثورة بعد 2011. لكنني لا أبرئ معارضيه من دفعه لهذا المآل الشمشوني، لقد حسبها خطأ وأراد أن يأكل الثوم بأفواه الحوثيين، وكتبت حينها مقالاً بعنوان: صالح والضرغام الحوثي، مزجياً له مع آخرين، نصيحة أبي الطيب المتنبي:
ومن يجعل الضرغام بازَاً لصيدهِ تصيّدهُ الضرغامُ فيما تصيّدا
كنت على يقين، أن صالح يسعى لاستخدام الحوثيين بنية أنه سوف يقلب الطاولة عليهم، وهذا ما كان يدركه الحوثيون أيضاً. فاستفادوا أيما استفادة من سنوات التنسيق بينهما، واستفادوا من مشجب "العدوان"، ومن ضعف أداء الشرعية، وحينما دعا صالح أنصاره لإحياء ذكرى تأسيس المؤتمر الشعبي العام، في 24 أغسطس 2017؛ أدركت أنه إذا لم ينجم عن هذا الحشد الكبير تغيير للمعادلة في صنعاء، فلن يستطيع صالح جمع أنصاره مرة أخرى. وتوقعت تماما النهاية التي كانت في 4 ديسمبر من العام نفسه.
في 24 أغسطس، تخير صالح التوقيت، فبذل الحوثيون وسعهم لنزع صاعق تلك الفعالية، وجاء خطابه أمام الجماهير صادماً للجميع، عكس التعبئة التي بلغت سقفها العالي قبل يومين. ثم حدد الحوثيون الموعد التالي هم، وبالتالي كانت انتفاضة الثاني من ديسمبر في وقتٍ استعد فيه الحوثيون جيدا. مع هذا انتفض الناس في صنعاء ومدن أخرى ومزقوا صور الحوثيين ورأينا كيف كان الأطفال في الشوارع يطردون الأطقم الحوثية.
بادر الحوثيون إلى إسكات منابر المؤتمر وقطع الاتصالات وأخذوا بعض النساء والأطفال كرهائن وأحكموا الحصار على "الثنيّة" حيث يسكن صالح، وكان طبيعياً أن صالح مهما صمد فهو محاصر، واستشهد رحمه الله وهو يقاتلهم، وقبلها أطلق نداءه لأبناء الشعب، معتذراً عن كل تقصير.
لقد أخطأ صالح ودفع ثمن خطأه؛ لكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يكونوا مخطئين، وهذا سر التنهيدة التي تنتابني كلما أردت الكتابة حول هذا الموضوع.
ما أريد قوله باختصار هو الأسئلة التالية:
ماذا لو قُتل صالح على يد التحالف؟ هل كان الحوثيون ليتركوا دمه؟! أجزم أنهم كانوا سيثوّرون اليمن كله طلباً لثأره، ولسوف يظهرون عهده بأنه كان عهداً ذهبياً يفوق عهد هارون الرشيد!!
وماذا لو قتلوه دون أن يوضح موقفه في بيانه الأخير؟ وماذا لو مات حتف أنفه موتة طبيعية؟
المهم أن الغالبية من خصوم صالح، رفعوا أكفهم للسماء لكي تنجح ثورة ديسمبر، وجميعنا يتذكر المقولة التي قيلت على أنها لسان حال معارضيه يوم استشهاده رحمه الله؛ أن صالح عاش حين تمنينا أن يموت ومات عندما تمنينا أن يعيش.
ختاماً..
علي عبدالله صالح هو رئيس منّا، حكم اليمن 33 عاماً بحلوها ومرها، أصاب وأخطأ، وحمل اسم اليمن في كافة المؤتمرات والمحافل، عشنا معه لحظات من الفخار الوطني العريض، وعشنا معه لحظات أخرى من الانكسار المرير.
رئيس منّا.. له وعليه. لكنه في نهاية المطاف رجل حمْيريٌ باء بالفشل، ليس فشله فحسب، بل فشل المجموع اليمني الذي لم ينتبه بعد لمكائد الإمامة المتربصة. وحتى لو جئنا بزعيم أقوى منه، ونحن وإياه غير متنبهين لمكائد الإمامة ودسائسها في الصف الوطني، لكان مصيره أيضاً، نفس مصير صالح.
هي تجربة علينا أن نقراها بمسؤولية عميقة، متخففين من ثاراتنا الحمقاء. أقول هذا للتاريخ؛ إذ لم أكن يوماً من مقربي صالح، ولا من أعضاء حزبه، ولا من مسؤولي حكومته؛ بل إنني فقدت في عهده وظيفتي الحكومية كمدرس. والمرة التي قابلته فيها كانت في سبتمبر 2013، حينما زرته إلى منزله ونصحته أن الأمور بهذا المنحى سوف تفضي لضياع الوحدة والجمهورية.
رحم الله الرئيس الشهيد علي عبدالله صالح ورفيقه الشهيد عارف الزوكا، وكل شهداء انتفاضة ديسمبر، وكل الشهداء الذين قضوا في مواقع الشرف والبطولة منذ ما قبل الـ26 من سبتمبر 1962 وحتى اليوم.