ظلال من حكيم عنكر

معن البياري
الاثنين ، ١٤ ديسمبر ٢٠٢٠ الساعة ٠١:١٨ صباحاً
مشاركة

  لمّا كان كوفيد 19 يتسلّل، بخفرٍ، في أيامه الأولى، إلى هذا البلد العربي وذاك، وكنّا نراقبه في الصين وإيطاليا وأميركا، جاء الخبر إن الجزائر سجّلت حالة إصابةٍ به.

أُدردش مع حكيم، أقول له إن كورونا، إذن، في طريقها إلى المغرب. يعقّب بأن الفيروس وصل إلى أبواب المغرب ثم عاد، لأنه يعرف أن لدى المغاربة ما يكفيهم من المشكلات والمتاعب .. ثم أياما قبيل الإغلاقات المشدّدة، ومنها في مطاري الدوحة والدار البيضاء، حَدَس حكيم بأن لا مُزاح مع الوباء، فغادر إلى المغرب، ليُداوم في عمله من هناك، ومعه حاسوبُه، بين أسرته وأهله. ثم أهاتفه لمجرّد الدردشة، وكأننا نُواصل حوارا انقطع، وأقول له إنه فعل صوابا. يوصيني بالاحتراس من الفيروس الكريه. نتكلّم عن الاعتقال الذي صِرنا فيه في بيوتنا، وعن أمورٍ جاءت عفو الخاطر. يبقى التواصل بيننا في شؤون العمل اليومي، يستوضح، يقترح، يصوّب، يصحّح، يأخذ ويعطي. نتحاور في غير أمرٍ وأمر. نتراسَل في بريد الفضاء الأزرق، عن قلّة التزام الناس في الأردن والمغرب بما يُنجيهم من كورونا، عن ثريّا جبران، عن روايةٍ لكاتبٍ مغربيٍّ جدَّ اسمُه أخيرا، عن أصدقاء وزملاء .. لم أستشعره في بلدٍ بعيد، بل الزميل في مكتبه في ’’العربي الجديد‘‘ على مبعدة مترين عن مكتبي، ونتبادل الزيارات فيهما غير مرّةٍ في النّهار (!)، حتى إذا ما انتهيْنا من العمل مساءً، يحدُث أن نمشي إلى مقهىً في "سيتي سنتر" القريب، وفيه، نخوض في كل شؤون الكون، نواصل أحاديث بيننا لم تتوقف منذ أول صداقتنا، قبل أزيد من ستة عشر عاما، في صحيفة الخليج في الشارقة.

لم يُخبرني بإصابته بالفيروس، ثم لمّا عرفت، أتلفن له، وفيَّ بعضُ فزعٍ أخفيه، فيُخبرني بأنه في حالٍ أحسَن، أجده من نبرته منشرحا بعض الشيء، فأخمّن أنها إصابةٌ كما اللواتي ضربن زملاء وأصدقاء وأقارب عديدين ثم تعافوا. نجد في مكالمتنا هذه حيّزا لنحكي عن موقعة الكركرات، وعن الجزائر، ونلتقط في أمرٍ آخر ما يُضحكنا.

تاليا، نعلم أن حكيم في المستشفى، وحالُه صعبة. أرنّ الهاتف نفسه، فتُقلقني زوجتُه أكثر. ثم نتبادل الأخبار، نزار وحسام وأنا، وكلٌّ منا يحاول أن يُطمئن الآخر.

حتى إذا جاء النبأ المُفجع، صباح الأربعاء، يُباغتني عبد الصمد من الرباط بمكالمةٍ تؤكّده، ثم يضجّ الفضاء الأزرق بفقْدنا، نحن الكثيرين في غير بلد، بأن حكيم غادر إلى دار البقاء، فتتدافع قدّامي ظلالٌ كثيرةٌ من حكيم، عبرت من رفقتِه صديقا. لم أصادفه يوما في غضبٍ من أي شيء، متوترا أو منفعلا أو حتى عاتبا، بل إنه إذا ما أراد أن يزعل من أحدٍ يكابد فلا يستطيع. كنت أغبطه على ما في أعطافه من تمهّل وأناةٍ وهدوء.

يعمل ويشتغل ويقرأ ويكتب ويحبّ الليل والسهر مع الأصدقاء. طلقُ المحيا غالبا، صموت، فيه مقاديرُ غزيرةُ من الوداعةِ تسأل نفسَك من أين جاء بها كلها. حريصٌ على أن يعرف في الأمر الذي يتحدّث عنه.

لا يستطيب ذوي الضجيج الخادع، ولا يكترث لأي أضواء، يأنف من المتزلّفين، ولا تلقاه يُزاحم زميلا على شيء. نادرا ما يُفضي بما قد يكون فيه من تبرّمٍ أو عدم رضى. ثقافته اليسارية الباقية فيه، وانتسابُه سابقا إلى تنظيم

مغربي عُرف سنواتٍ بالجذرية، لا يناقضان اعتدالَه في التحليل السياسي، وهو المقيم على وطنيّته المغربية، وأفقه التحرّري ومناوأته الاستبداد.

أعتذر لقارئ هذه الكلمات، لفرط الشخصاني (والذاتي) فيها، وليس فيها شيءٌ قد يعنيه، فهي عن صلةٍ بين صديقيْن، ولكن ما يشفع لها أن أحدَهما هو حكيم عنكر. وهذا الاسم ليس لزميلٍ في جريدة، وإنما لقيمةٍ وأمثولة، لشابٍّ عربيٍّ كافح مُجدّا في حياته من أجل أن يكون مثقّفا طليعيا، وصاحب موقف، ومجتهدا في مهنته عندما آخى بين المَلَكة الأدبية والعمل في الصحافة، فدلّت تجربته، في غير جنسٍ في الصحافة، على بهتان أزعومة تخريب الصحافة لغةَ أهل الأدب الذين يعملون فيها.

شِعرُه القليل مطبوعٌ بحسّ عالٍ من النباهة في السخرية من كل قبح، محاوراتُه الصحافية مع مفكّرين وأدباء وسياسيين عديدين ثمينة القيمة، فقد كان فيها عارفا مطّلعا.

بورتريهاتُه عن شخصياتٍ متنوعة الأمزجة والمشاغل دلّت على حرفيّته وأمانته. متابعاتُه وتغطياتُه وأسفاره، وكتاباتُه النقدية ذات المسحة الصحافية الراقية، ومطالعاتًه ومراجعاته في الكتب، تؤكّد كفاءته الخاصة والخالصة. وإلى هذا كله، وكثيرٍ غيره من ظلالٍ وارفةٍ فيه، حكيم عنكر معدنٌ نادرٌ جدا من الناس، وصديقٌ ليس كمثله أحد.. كنتُ أنتظر عودته إلى الدوحة، ومعه علبة كعب الغزال التي يخصّني بها كلما قدم من المغرب، لكن يد المنون خطفته وأرادت أمرا آخر، وفعلها الفيروس الغادر.