وكأنّ إسرائيل تدخل مزادًا عكسيًّا لتشتري ’’سلامها‘‘ بأبخس ثمنٍ عرفه تاريخ المقايضة البشري، فمن "إمارات" بدأت البيع بكذبة ,,إلغاء ضم الضفة الغربية÷÷ لقاء سلامٍ يسيل لعابها عليه أزيد من لعاب المشتري، إلى "بحرين" لم تطلب سعرًا غير ثمن تذكرة سفر وزير خارجيتها إلى واشنطن لتوقيع معاهدة التطبيع، مرورًا، بـ"سودان" لم يتسوّل سوى رفع اسمه عن القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وصولًا إلى "مغرب" لم يشترط أزيد من "اعتراف" أميركيّ بسيادته على أرضٍ هي من حقّه أصلًا.
ربما لا يعلم باعة الضمائر من زعمائنا أن الثمن الذي يقبضونه لقاء تطبيعهم مع إسرائيل هو ثمن فلسطين ذاتها في نظرهم، بشعبها وأقصاها؛ لأنهم بهذا التطبيع إنما يبترون صلتهم بالقضية كلّها، لا بوصفها قضية قومية وإسلامية تخصّهم، باعتبارهم محسوبين على الأمتين العربية والإسلامية فقط، بل لأنها، قبل ذلك، قضية احتلال واغتصاب تمسّ الإنسانية كلّها.. هذا لو كانوا يضعون في ميزان سيئاتهم مثل هذه الاعتبارات أصلًا.
أيضًا، ربما لا يعلم هؤلاء الباعة أن "الأسعار" التي دفعتها إسرائيل هي أسعارهم نفسها في نظرها وفي نظر ترامب، اللذين لم يدفعا، عمليًّا، أي مليم مقابل صفقات التطبيع، سوى إعادة بيع جزء من الممتلكات العربية المنهوبة للعرب أنفسهم، أي أن البائع بمعروضاته إنما يعاود شراء بضاعته مرّة أخرى، كما يحدث لبعض ضحايا لصوص السيارات الذين يدفعون أموالًا لاسترداد مركباتهم. فبأي معنى يقايض السودان "براءته" من ذنبٍ لم يقترفه أساسًا، بل لفّق له تلفيقًا لضرورات الابتزاز والحصار، لقاء بيع مبادئه ورهن مصيره بيد عدوّ استراتيجي للأمة، لا يزال يرى في نهر النيل من حدود كيانه. وبأيّ معنىً، يجازف المغرب باغترابه عن فلسطين، وكيف يتنصّل من دور قديم لعبه ذات قمة عربية سنة 1975، عندما أنيطت بعاهله الراحل الحسن الثاني رئاسة "لجنة القدس"، وكان في مقدمة أهدافها "حماية القدس من المخططات والمؤامرات الصهيونية وخطط تهويدها"، ثم انتقل إرث الرئاسة إلى الملك محمد السادس. والمعضلة أن التطبيع المغربي يتم اليوم متزامنًا مع إعلان ضمّ القدس لإسرائيل، وفي أوج عمليات التهويد، فكيف سيسوّغ الملك هذا التهافت، وهل غدت أميركا الحاسم الأكبر بشأن سيادة المغرب على صحرائه وجغرافيته؟ وماذا ستقول وزارة الخارجية المغربية في تقريرها عن أنشطة "لجنة القدس"، الذي يفترض أن تقدّمه سنويًّا إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية؟
كنا نظنّ قبل اليوم، وإن بعض الظن إثم، أن فلسطين غالية على قلوب زعمائنا، وبأنها أكبر من أن تزجّ في أسواق المزادات، وبأنها خارج فلك الخطوط الحمراء والبنفسجية كلها، غير أن ما يحدث يبرهن أن فلسطين، في نظر حكامنا، ليست أزيد من سلعة في "سوق البالة"، ومزاد البيع فيها يتم بـ"الحدّ الأدنى"، لا الأعلى، أي لمن يدفع الثمن الأقلّ.
على هذا النحو، كانت الصفقات تعقد بين المنتصر والمهزوم، لكنها اليوم تعقد بين قيمتين، بين الحرية والاستبداد، بين دول ديمقراطية تسعى إلى إرضاء شعوبها وتحقيق مصالحها، ومسؤولين لا يريدون أزيد من تكريس عروشهم وتوطيدها، ولو على حساب ثوابت شعوبهم الذين يعتبرون القدس عاصمتهم، وفلسطين وطنهم، وليس ذلك غريبا على من لا يقيمون وزنًا لمشاعر الشعوب، أصلًا، غير أن ثمة جانبًا مشرقًا في الأمر، فقد تكشّف للشعوب العربية مبلغ الرخْص في صفقات التطبيع المستعرة .. ولكن فلسطين ستظلّ الأغلى سعرًا، لأن ثمنها أنهار دماء يصعب على مثل أولئك أن يقيّموه.