خلط أوراق ومنعطف جديد

محمود الريماوي
الأحد ، ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٠ الساعة ٠١:١٢ صباحاً
مشاركة

لم يُجانب الصواب القرار الفلسطيني بالامتناع عن شنّ حملاتٍ على الدول العربية التي انجرفت إلى تطبيع ساخن مع دولة الاحتلال، إذ إن تقرير مصير التطبيع هو مسؤولية الشعوب المعنية، حتى لو كان الأمر يمسّ بحقوق طرفٍ ثالث، هو الطرف الفلسطيني، فالدول باتت تتحدّث عن قراراتٍ سيادية، علما أن كل القرارات المهمة التي تتخذها كل الدول سيادية، ما ينفي الحاجة إلى التذكير بهذا الأمر، ومما يدل على أن المقصود أن الحسابات الخاصة والمصالح الذاتية تتقدّم على التقيد بالتزامات خارجية عربية.

وهذا ما حدث، فإذا اندفع الجانب الفلسطيني المتضرّر ضررا شديدا، وتحت وطأة الشعور بالصدمة، إلى معارضة هذه التوجهات بصورةٍ علنيةٍ ومنهجية، فإنه يزجّ نفسه في مشاحناتٍ حسّاسةٍ مع أطرافٍ عربية رسمية وأهلية، إذا أخذنا في الاعتبار أن فئات شعبية، أيا كان حجمها، تؤيد التطبيع. هذا فضلا عن الحسابات الصحيحة، حين لا يجد الطرف الفلسطيني إلا قلة قليلة من تقف معه ضد تسونامي التطبيع، ما يضعه في عزلةٍ شديدةٍ من جهة، ويهدّد بقطع مصادر تمويل السلطة عربياً، مع التعرّض لحربٍ سياسيةٍ وإعلامية محتملة، وقد توفر بيئة مناسبة للضغط نحو محاولة فرض صفقةٍ سياسيةٍ ما.

هذه الحسابات سليمة، حين تتعلق بتوجيه المستوى الرسمي للسلطة، أو المستوى الحركي (الحزبي) لحركة فتح، على ألا يُستغل هذا الظرف، للمساس بحرية التعبير أو المجازفة بتبديد القليل المتاح من الحرّيات. ولنا في الطرف الآخر (دولة الاحتلال) عبرة، والذي لا يهدر حرية الصحافة والإعلام وحرية التعبير السياسي في جميع الظروف، باستثناء حالات الحرب، وعدا التطرق إلى موضوعاتٍ، أو بالأحرى معلومات، يعتبرها أمنية أو استخبارية.

لا يعلم المرء إذا كانت موجة التطبيع العربية قد أثارت الحاجة إلى تأمل الأداء الفلسطيني، ومعاينة الرؤى السياسية الفلسطينية السابقة على هذه الموجة، والتي أفضت، في النتيجة، إلى المفاجأة مما جرى، ولكن من دون تأمل المسؤولية الذاتية (غير المباشرة) في الإسهام بالوصول إلى هذه المرحلة. وفي القناعة أن الوضع الفلسطيني شبه المشلول قد اتخذ ذريعةً قويةً للاندفاع نحو التطبيع، وبداعي أن هذا الوضع غير قابل للإصلاح، وأنه ما إن يتحسّن قليلا حتى ينتكس مجدّدا.

والذي حدث، منذ بدء السنة الثانية من ولاية الرئيس دونالد ترامب، أن الجانب الفلسطيني تعرّض للتهميش من واشنطن، وتعرّضت الحقوق الوطنية في القدس إلى مسٍّ خطير بها.

وفي تلك الأجواء، تم التحضير لصفقة القرن التي تم الإعلان عنها قبل نحو عام. وهي فترةٌ اكتنفتها صعوباتٌ وتحدّيات جمّة، وأبدت السلطة فيها صمودا "سلبيا" بالتمسّك بالحقوق، ومقاطعة الجانب الأميركي الذي يُنكر الحقوق الأساسية. والمقصود بالسلبي أنه لم يقترن بدينامية مرافقة له، وأنه تم الاكتفاء بتسجيل مواقف صحيحة.

إذ شهدت السنوات الثلاث الماضية انكفاءً على مستوى أداء السلطة السياسي. وعلى الرغم من أن ظروف هذا الانكفاء مفهومة ومبرّرة، إلا أن الحياة السياسية مثل الطبيعة، تكره الفراغ الذي سرعان ما يُملأ. وقد جاء اقتران الانكفاء بدوام الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية، وبوهن الإرادة على إجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ ليظهر الوضع الفلسطيني على درجةٍ من الشلل والجمود.

وذلك خلافا لسياسةٍ سابقةٍ كان يعتمدها الرئيس الراحل، ياسر عرفات، بإدامة الاشتباك مع التحدّيات السياسية، ورفض التهميش الإقليمي بعد الأميركي، وعدم الاعتصام بالانتظار إلى أن يحصحص الحق.

إلى ما تقدّم، ثمّة مسألة أخرى لم تولها السلطة الفلسطينية ما تستحق من اهتمام، وهي استشعار الأطراف الخليجية جسامة التحدّي الإيراني.

خلافا لبقية الفصائل الإسلامية ومعظم الفصائل اليسارية، فإن السلطة الفلسطينية تجنبت إقامة علاقات مع طهران، وظلت تتوجّس خيفة من مشاريعها وخطابها مما تزكّيه الوقائع، وهذا أمر جيد.

ولكن على المستوى القيادي للفصائل، وفي أوساط اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فإن المخارف الخليجية من طهران لم تؤخذ مأخذ الجد، ولطالما برزت تصريحاتٌ تتحدّث عن استبدال العدو القومي بعدو آخر.

هذه الاستهانة بالتحدّي الإيراني، أظهر الجانب الفلسطيني في وعي نخب خليجية وشرائح من الجمهور أنه على جانبٍ من الأنانية، وأنه لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، ويرى من المخاطر ما يحدق به هو، حصراً. أما الآخرون فلا يستحقون التضامن معهم. وقد وقع هذا التباعد في النظر الاستراتيجي، فيما قللت السلطة من حجمه ومن أثره. هذا على الرغم من عدم ثقة السلطة بطهران وسياساتها، لكن السلطة اعتبرت الموقف من التحدّي الإيراني مجرّد خلافات في وجهات النظر قابلة للحل.

وفي هذه الظروف، شاعت على منصات التواصل عبارات ووسوم شنيعة مثل "قضية فلسطين ليست قضيتنا" و"ندفع لهم طيلة خمسين عاما ليستكثروا بعدئذ الوقوف معنا". وذلك في تصعيد عصابي للخلافات التي كانت مستترة بشأن تحديد المخاطر وتعيين الأولويات في الإقليم، وفي إظهارعمق الفجوة في المزاجين، السياسي والنفسي، بين الجانبين في السنوات الخمس الأخيرة.

تدخل القضية الفلسطينية الآن منعظفا جديدا وبالغ الحساسية، مع تقلص الدعم العربي للجانب الفلسطيني، وبروز دولة الاحتلال دولة صديقة لأطراف عربية. هذا مع بروز ما يمكن أن تكون فرصة في الوقت ذاته، وذلك بأن تعقلن الإدارة الأميركية الديمقراطية في ظل الرئيس جو بايدن توجهات التطبيع ومقاصده، فلا يكون حل الدولتين ضحية لهذه الموجة. وأن لا يتم خلط الأوراق بصورةٍ تجري فيها التضحية باستحقاق السلام الشرق أوسطي، من أجل توجيه ضغوط على إيران. والصحيح أن الضغوط الدولية والإقليمية يجب أن تتوالى، مترافقة متزامنة، وجنباً إلى جنب، من أجل السلام العادل وفق الشرعية الدولية، وفي سبيل أن تتحوّل إيران دولة عادية طبيعية، لا تهدّد جيرانها ومحيطها.