تناولنا في الجزء الأول من المقال النموذج الأول من الشباب الذين انخرطوا في القتال مع أطراف الصراع المختلفة. وفي هذا الجزء سنتناول أربعة نماذج أخرى لواقع الشباب بعد عشرة سنوات من قيام ثورة فبراير: شباب اتجهوا إلى العمل في المنظمات، و فئة أخرى اتجهت إلى التطبيع مع الواقع والصراع من أجل لقمة العيش، و آخرون ذوو ثقافة عالية مالوا إلى الفكر العدمي الناقد للحياة، أما النموذج الأخير فهم شباب من الفنانين والكتاب والحقوقيين الذي اختاروا النضال السلمي وينتظرون الثمرة على المدى البعيد.
النموذج الثاني: الخلاص الفردي
أصحاب هذا المسار هم في الغالب شباب ما تبقى من الطبقة الوسطى والذين اتجهوا لتحقيق خلاصهم الفردي بعد اليأس من حدوث تغيير سياسي ودخول البلد في سياق حرب مفتوحة. ويكافح قطاع من شباب هذا التوجه في دروب العمل المتاحة في اليمن رغم شحتها بهدف إنجاز خلاصهم الشخصي بمعزل عن المصير الجمعي خاصة بعد انسحابهم من النضال في الشأن العام ليجاهدوا باستماتة لتحقيق القدر الممكن من المكاسب المادية التي تمكنهم من البقاء في طبقة اجتماعية اقتصادية في طريقها إلى التلاشي.
من الجدير بالذكر هنا أن قطاع الإغاثة المتعاظم في البلد قد خلق نشاطاً حيوياً، وفتح فرصاً للعمل في ظل انهيار القطاعين العام والخاص، وتوقف مرتبات موظفي القطاع العام لأكثر من أربعة أعوام في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي. وهكذا تسابق الكثير من شباب هذه الفئة ممن أتيح لهم الحصول على مؤهلات جامعية وفرص إتقان اللغة الإنجليزية إلى الالتحاق بوظائف منظمات الإغاثة لتقديم خدمات لفئات الشعب المتضررة من النزاع من جهة، وتحصيل فوائد مالية مقابل ذلك النشاط من جهة أخرى. ويضطر الشباب العاملون في الإغاثة في مناطق الصراع إلى إخفاء ولاءاتهم السياسية لضمان نجاح المهام الإنسانية الموكلة إليهم.
أما أولئك الذين لا يتبعون تياراً سياسياً بعينه، ويجدون ذواتهم في النشاطات المدنية البعيدة عن حقل السياسة، فليسوا بمنأى عن خطر استهدافهم أثناء عملهم الميداني، إذ يتعرض بعضهم للتهديدات بسبب عدائية بعض أطراف الصراع وابتزازها لمنظمات الإغاثة المحلية والدولية.
وفي إطار البحث عن الخلاص الفردي، لجأ البعض إلى الهجرة ومغادرة البلد بطرق شرعية وغير شرعية بعد إدراكهم استحالة إنجاز نجاحات في بلد منهار كاليمن. ويعقد أتباع هذا التوجه الآمال على تأسيس حياة جديدة في بلدان المهجر تعوّضهم عن حالة الحرمان التي عانوا منها في بلدهم، كما أن بعضهم هاجر لأسباب سياسية نتيجة مخاطر ومُلاحقات قد يتعرضون لها في حال فضلّوا البقاء في البلد. وتعد هجرة هؤلاء الشباب، لا سيما المبدعين منهم وذوي الخبرات والكفاءات النوعية، خسارة فادحة لليمن، لكنهم لا يقبلون، وهم محقون في ذلك، بأن تُبدد طاقاتهم ببقائهم في بلد منهار، لذا يشكّل توقهم لأنماط عيش تعويضية بديلة في بلدان المهجر يتمكنون فيها من تحقيق ذواتهم وإنجاز نجاحات، دافعهم الأول للهجرة من اليمن. على أنهم يظلون يكابدون حالات قاسية من الاغتراب خارج بلدهم حتى وإن مروا بتجارب وخبرات جيدة كان يحلمون بالحصول عليها.
النموذج الثالث: القبول بالواقع دون تصالح
اضطر جزء لا بأس به من الشباب اليمني إلى تطبيع حياته داخل اليمن مع واقع الحرب. ولم يجد مفراً من القبول بالعيش في أسوأ أشكاله رداءة داخل البلد بفعل الاضطرار للبقاء داخل اليمن بسبب وضع عائلاتهم الاقتصادي، ضمن أسباب أخرى. تخلى أتباع هذا المسار عن طموحاتهم بفعل انهيار الواقع وانسداد أفق الخلاص أمامهم. وعلى الرغم من عدم تصالح شباب هذا المسار مع اختلال الواقع، فإنهم يمضون في الحياة على أية حال؛ لأنهم عالقون في وضع شائك. فهم لا يستطيعون توفير أدنى متطلبات العيش الكريم؛ لأنهم لم يختاروا القتال مع طرف يتكسبون منه، ولا هم يملكون مقومات التنافس في فرص التوظيف المحدودة، كما أنهم لم يتمكنوا من الهجرة وتأسيس حياة جديدة خارج الوطن. يبذل هؤلاء الشباب كل جهودهم لمطاوعة الشروط القاسية للعيش، وتوفير ما يبقيهم على قيد الحياة، وهم يشاهدون سنوات شبابهم تفنى بانتظار أن تنتهي الحرب لتحقيق طموحاتهم المؤجلة.
النموذج الرابع: يأس وعدمية
برز الفكر العدمي لدى قطاع من الشباب في بداية الحرب كرد فعل تلقائي تشكّل بسبب انهيار أحلام التغيير في اليمن. هم شباب وصل الحال بهم بعد انهيار الثورة وغياب تنظيمات سياسية ثورية مخلصة تقف في وجه المد الميليشياوي والأطماع الداخلية والخارجية إلى أوج حالات اليأس وعدم الرغبة أو اللاكتراث بأي شيء حولهم. ليس لجهلهم بما يدور، بل على العكس هم مثقفون وقراء شرهون يحيطون بكل الحيثيات التاريخية للواقع الحالي للحد الذي تستحيل بهم الحياة دون صراع فتاك مع الذات، واستلاب وعزلة من حياة أُفرغت من معناها. وسرعان ما تحوّلت العدمية والعبثية إلى توجه فكري منهجي طفت أدبياته تباعاً في أوساط هذه الفئة المثقفة من الشباب، ووصلت أثارها إلى ما ينشرون على وسائل التواصل الاجتماعي. ونجدهم يتداولون من خلال هذه المنصات نصوصاً تفكيكية وعدمية أدبية وفلسفية نجد مرجعياتها لدى ألبير كامو، وإميل سيوران، وفريدريك نيتشه، وآرثر شوبنهاور وآخرون.
و لأنهم يستندون إلى تيارات فلسفية محددة، فإن هذا النموذج من الشباب يرون الواقع من منظور أوسع يتجاوز اللحظة الآنية، فبالنسبة لهم معضلة الصراع في اليمن متعلقة بما يرونه صيرورة عشوائية للحياة وليس لأسباب لحظية. فالإنسان مجرد مادة “للتاريخ”، يفعل به ما يشاء كما يقول الأديب والفيلسوف العبثي الفرنسي ألبير كامو، الذي يخلص في فلسفته إلى أن الحياة فكرة عبثية ولا تتضمن أي معنى. وهنا وجد هذا النوع من الشباب ما يخاطب كياناتهم القلقة في مؤلفات الفلسفات الوجودية والعدمية؛ وهي عزاءات يلتمس الشباب من خلالها فهماً لقسوة المرحلة والشك بجدوى الأمل بعد أن تباعدت المسافة بين القيم التي طالما آمنوا بها وهذا الواقع العصي. ففي النهاية تحاكي تلك النصوص إرادة نفي الحياة وهذه الأزمة الوجودية الحادة.
هذا النزوع العدمي الحديث لدى بعض الشباب اليمنيين لم يعد مجرد ردة فعل ظرفية تجاه المرحلة بل أضحى تجسيدا لتحولات فكرية لعل أبرز معالمها بروز الإلحاد وعدم اليقين تجاه كل شيء. فتصاعد وتيرة الشر المتمثل في العنف والفوضى والانهيار، وتفاقم الألم تسبب في انهيار يقينياتهم الفكرية التي عجزت عن توفير تفسير روحي لما يحدث. كل هذا يبعث أكثر الأسئلة الوجودية إنهاكاً، أسئلة فلسفية عن ماهية الوجود وغاية وجدوى القيّم. ولم يتبنَ هؤلاء الشباب الأفكار العدمية كنوع من الاعتناق المبتذل للنماذج الجاهزة، بل إنها انسجمت موضوعياً مع واقعهم المفخخ بالشر والفوضى.
لقد أصبحت هذه العوامل، المشار إليها آنفا، تقدم تبريراً لإنهاء الحياة بأسرها؛ سواءً عبر وضع حدٍ لإعادة إنتاجها كما دعى الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، أحد أبرز رواد العدمية، إلى ووقف فكرة التناسل لوضع نهاية للحياة، أو عبر إنهاء حيواتهم المُعذبة بالانتحار. وعلى الرغم من أن الأسئلة الوجودية لا تشكل خطرا إذا ما اتخذت طابعاً منهجياً يفضي إلى إنتاج معرفي، فإنها، إذا بقيت أسيرة ردة الفعل تجاه قلة الحيلة واليأس، قد تؤدي إلى خلق اضطرابات ذهنية ونفسية وإحالة الحياة إلى فوضى يحكمها الصراع الذاتي العاصف الذي قد يصل إلى حد التفكير في الانتحار للخلاص من الألم والتساؤلات. ولربما يكون الكفر بكل شيء بما في ذلك الذات، ضرباً من ضروب المقاومة الذهنية والنفسية التي يصنعها اللاوعي كردة فعل لهذا الظرف التاريخي الذي انتهك الذوات الفردية والجمعية على حد سواء.
ومن هذا المنطلق، يرى شباب هذا النموذج أن النضال من أجل السلام مجرد تصوّر حالم مفرط في المثالية الساذجة. وبازدواجية عدمية يمجدونه في العلن أمام الجماهير، لكنهم في سرهم لا يؤمنون بجدواه كون معضلة الصراع كما يرونها أعقد من كونها مجرد محنة سياسية عابرة. وهم لا يرون مخرجا منها سوى تعطيل الإرادة الإنسانية والكف عن النضال. فمن ناحية هم لا يؤمنون بجدوى النضال، لكنهم لا يُمانعون من الانخراط فيه في حال توفرت ضمانات لإنجاز تغيير ما يفضي إلى تحسين حياة الناس.
النموذج الخامس: نضال نخبوي يعتصم بالأمل
يواصل قسم من الشباب النضال ضد الاستبداد والعنف بطرق غير صدامية نابعة من إيمانهم بالثورة وإمكانية التغيير. ويشكل أغلب قوام هذا التوجه بعض الصحفيين والكُتّاب والفنانين المثقفين الذين يلجؤون إلى الكتابة والنشاط الحقوقي والثقافي والفني لمقاومة الوضع الراهن. وبحكم وسائط ولغة هذا النوع من النضال، فإن فاعليه وجمهوره يبقيانه نخبوياً بالدرجة الأولى ويكاد يكون بعيدا عن واقع الحواضر الشعبية، ويفشل في تحقيق مكاسب نضالية على المدى القريب.
كما أن نشاطات الشباب الثقافية والحقوقية هي حالياً قيد صعوبات جمة تحول بينها وبين إحداث تأثير ملموس على الأرض. ومن ضمن هذه التحديات تشظي البلد وتعدد السلطات الحاكمة والقوى المستبدة وتصدّر العنف المسلح للمشهد وسيادة الفوضى والبطش وملاحقة أطراف الصراع لأي فعل معارض. ناهيك عن أن نشاطهم قائم على الانتقائية والعشوائية المفتقرة إلى التنظيم والوصول إلى القواعد الشعبية، مع غياب للمرجعيات اللازمة للتنظير الثوري. غير أن هذا النضال رغم محدوديته يضمن بشكل تراكمي تشكيل وعي سياسي وثقافي لأي انتفاضة قادمة في حال توفرت ظروف مناسبة لقيامها، ويبعث الإيمان بالعمل الثوري بعيد الأمد لدى الشعب المُحبط الذي لم ينسَ ثورة فبراير.
هل يمكن أن تنهض الثورة من جديد؟
إجمالا، وسواء انخرط في أتون الاقتتال أو نأى عنه، يبقى القطاع الأكبر من الشباب حالياً عرضة للاستلاب والاغتراب الفردي والجمعي ضمن واقع انعدمت فيه خيارات تقود إلى الخلاص. نحن اليوم أمام مشهد تفرض فيه جماعة الحوثي، في مناطق سيطرتها، قيوداً غير مسبوقة على تحركات الشباب عبر نظام أوليغاركي يشبه ذلك الذي تحدث عنه جورج أورويل في روايته (1984)، نظام يلاحق الحياة والنوايا والأفكار قبل الأفعال. في المقابل، في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، يطوّق الشباب بحالة الاختلال التي خلقتها الحكومة والمجلس الانتقالي عبر ارتهانهما للسعودية والإمارات.
غير أن الثورة على الاستبداد ليست مستحيلة حتى في أحلك الظروف وذلك شريطة بعث وإعداد نصف الشعب على الأقل للثورة، وخروجه دفعة واحدة في تظاهرات تشمل المدن اليمنية الرئيسية، ليس للمطالبة بالتغيير فحسب، بل لإسقاط سلطات الاستبداد جمعاء والاستعداد لاحتمالات المواجهة معها على نحو قوي ومُنظم يضمن في المحصلة انتصار الجماهير. فالسلطات التي تُمسك بمقاليد الحكم حالياً في شمال اليمن وجنوبه يستند وجودها على القمع والعنف، وهي لا تكترث بطبيعة الحال لأي مسؤوليات قانونية أو أخلاقية تجاه الشعب، بل أنها باتت أكثر استبداداً من نظام الحكم السابق الذي أسقطته ثورة فبراير. ولهذا السبب يجب أن يوجد في تقديرات أي ثورة شعبية قادمة خيار المواجهة المباشرة والمقومات الضامنة للانتصار على سلطات الاستبداد.
بهذه الطريقة فقط يمكن للشباب والشعب اليمني عموماً قلب معادلة الواقع الراهن، واستعادة زمام الأمور وفرض معطيات جديدة على الأرض تقوض سلطات الاستبداد المحلية وتسد ذرائع التدخل الخارجي الذي سيتلاشى تلقائياً في حال بُعث الشعب للثورة ونجح في السيطرة على مقاليد السلطة في البلد وتسنى له ترتيب الفضاء السياسي وفق إرادته. كما يجب الاستفادة من الدروس السابقة وتفادي عوامل إخفاقات السنوات العشر الماضية وذلك عبر خلق قيادة ثورية جماهيرية منظمة ومخلصة تأخذ على عاتقها، وبشكل مسؤول، مهمة حشد الجماهير خلف هوية وطنية جامعة. وهو التحدي الأكبر بسبب تفكك الهوية الوطنية لصالح الهويات الايديولوجية والمناطقية منذ اندلاع الحرب.
إن فلاح أية ثورة قادمة مرهون بنجاح فكرة توحيد الصفوف خلف مطالب العدالة الاجتماعية و الكرامة، والخدمات المرتبطة بصورة مباشرة بالمعاناة اليومية للشعب. بهذا فقط سيفسح المجال تلقائياً لقيادة الشعب صوب ثورة كُبرى تقلب الطاولة على كل سلطات الاستبداد التي تقتات على بلاغيات سياسات الهوية واقتصاد الحرب. وفي المحصلة، فإن إطلاق مشروع ثوري كهذا ليس هيناً، لكنه في نفس الوقت ممكن ولابد أن يتحقق ولو بعد حين.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك