تقول أساطير الإغريق، إن زيوس أهدى باندورا صندوقاً مغلقاً وطلب منها ألا تفتحه، على الرغم من أنه كان يعلم أنها ستفعل ذلك، وحين فتحته خرجت من داخله كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة. إن استعادة هذه الأسطورة تعود بالذاكرة إلى كل ما جرى من أحداث تلت 21 سبتمبر (أيلول) 2014، حين سيطرت جماعة "أنصار الله" الحوثية على العاصمة اليمنية صنعاء، وكل المساحات الجغرافية التي تقع إلى شمالها، لكنها لقلة خبرة قيادييها، وعدم إدراكهم لتبعات خطواتهم العنيفة السريعة التي سبقت وتلت ذلك التاريخ، فتحت ما يشبه "صندوق باندورا" وما يحتويه من الشرور التي نشاهد كل آثارها الإنسانية ماثلة أمامنا وتضاعفت منذ بدء الحرب التي كان شعارها الجميل هو استعادة الدولة ورفع العلم في مران.
من الطبيعي حدوث خلاف حول حجم مسـؤولية كل طرف في المأساة التي يمر بها اليمنيون ويزداد الصراع حول تاريخ بداياتها، فالبعض يقول إنها تشكلت مع الاستفتاء على اختيار الرئيس عبدربه منصور هادي خلفاً للرئيس الراحل علي عبدالله صالح في 21 فبراير (شباط) 2012، ويحيل آخرون الأمر إلى 21 سبتمبر 2014 حين انهارت كل مؤسسات الحكومة والجيش أمام ضربات الحوثيين وتمددهم من صعدة وصولاً إلى صنعاء ثم التوجه جنوباً.
وهناك من يقول، إن سقوط الدولة كان في 22 يناير (كانون الثاني) 2015، حين رفض الرئيس هادي الطلبات الجشعة لجماعة "أنصار الله" الحوثية للحصول على حصة في المناصب الحكومية العليا، ما دفع إلى استقالته ورئيس الوزراء خالد بحاح، ثم احتجازهما في منزليهما قبل أن يفر الأول إلى عدن في 21 فبراير 2015، ثم يتوجه إلى صلالة في 24 مارس 2015 وصولاً إلى الرياض في 26 مارس من العام نفسه، فيما غادر الثاني إلى الولايات المتحدة.
القراءة بأثر رجعي لكل ما جرى في هذه المراحل الزمنية، يضع علامات استفهام كثيرة لم تُفَك ألغازها حتى هذه اللحظة، ولا يعلم كثيرون تفاصيلها الغامضة، ويتم التعامل معها دون اكتمال معطيات كل مشاهد الصورة فتخرج الروايات مشوهة ومربَكة. لكن المؤكد من هذه الأحداث، أن الخلل كان كامناً وما يزال في طريقة إدارة ما يُعرَف بـ "الفترة الانتقالية" التي كان يُفترض أن تنتهي في 22 فبراير 2014، بحسب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. ويمكن أيضاً إضافة حال الجشع الذي سيطر على الأحزاب الداعمة لشرعية الرئيس هادي، التي تصدر عنها كافة القرارات الوطنية والدولية. وفي الوقت الراهن، يتم تداول مقترحات بين من يسمون "الأحزاب الداعمة للشرعية" لوضع تصور لما يقولون إنه "إعادة هيكلة قمة الشرعية ومؤسساتها".
لا شك أن الأداء السيء يستدعي على وجه السرعة إعادة النظر في الأسلوب الرديء الذي أديرت به مؤسسات الشرعية ومواجهة اتهامات الفساد التي تناولتها التقارير الدولية والتقارير المحلية، وهذا يتطلب تفعيل دور النائب العام الذي يتوجب عليه التحقيق في كل ما يتم نشره في هذه التقارير، وكذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها بلاغات موجهة إليه، وهو ملزَم قانوناً وأخلاقياً الاهتمام بها. ومع ذلك، فإني لا أرى أن الدعوة إلى تقليص صلاحيات الرئيس هادي والحديث عن استبعاد نائبه هي المخرج من أزمات الشرعية، بل أظن أن ذلك سيحدث أثراً شديد السلبية في العمل السياسي.
يدور حديث خلف الكواليس، وإن كانت بعض المواقع قد تناولته بالتفصيل، حول الدعوة لتشكيل مجلس رئاسي على غرار ما كان معمولاً به في الجمهورية العربية اليمنية (1970 – 1974)، ثم مجلس القيادة (1974 – 1977)، وكذلك ما جرى في الجمهورية اليمنية (1990 – 1994)، ولكن هذه التجارب لم تكن نموذجاً يمكن الدعوة إلى تكراره، وهي نماذج كانت تثير تعقيدات سياسية وقانونية حول صياغة القرارات وتنفيذها، وذلك على الرغم من أن الأوضاع كانت طبيعية والدولة متواجدة بكامل مؤسساتها الدستورية.
وكما أن الداعين إلى هذه الصيغة من نظام الحكم يتجاهلون عمداً حقيقة أن تنفيذ هذا الأمر يستدعي إيجاد صيغة دستورية لا يشملها الدستور القائم، ومن هنا فإن التحايل والتدليس تحت أي مسمى كـ"التوافق الوطني" لن يغير الأوضاع كما يرغب اليمنيون والإقليم، ولن يعدو أن يكون كما يقول المثل اليمني "ديمة وخلفنا بابها". بكل وضوح فإن "صندوق باندورا" الذي فجر الحوثيون غطاءه وانتشرت محتوياته في كل أرجاء اليمن، لن يتم احتواء محتوياته بهذه الطريقة التي لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة المشكلة، بل وتصر على إعادة التدوير للعناصر ذاتها التي عبثت خلال السنوات الماضية، وعجزت عن التصدي للفساد، بل ووجهت إليها اتهامات موثقة تثير الغضب والحنق بين اليمنيين والدول المانحة.
وهكذا فإن المطلوب حقاً هو المعالجة الجادة للأخطاء الكارثية، وهذا لن يحدث بالإصرار على تثبيت الأسماء التي تمت تجربتها ولم تنجز شيئاً يمنحها حق التنافس على إدارة البلد، مع تشكيك المواطن اليمني بنزاهتها، وبـأهليتها الأخلاقية، والسياسية، والإدارية.
لست هنا في وارد الدفاع عن الرئيس هادي فهو الأقدر على فعل ذلك بالحديث المباشر إلى الناس ليشرح لهم حقيقة ما يجري، ولكني أحذر من التعجل بالسير في طريق ابتكار أعوج لهيكل حكم جديد، ظناً أنه الخلاص من الأزمة التي تعاني منها مؤسسات الشرعية العاجزة، والتي يتفرغ القائمون عليها لرعاية مصالحهم الخاصة.
وأنا مقتنع أيضاً بأن المسؤولية الكبرى لإعادة ضبط المشهد تقع على الرئيس، والخطوة الأولى هي أن يقوم بعملية تغيير حقيقية لكل من حامت حولهم اتهامات بالفساد وأثبتت التجارب عدم قدرتهم على الأداء الإيجابي. إن الحديث عن غياب الرئيس وعدم متابعته للقضايا المصيرية وعدم اقترابه من الناس وتفويض أغلب الصلاحيات دون رقابة صارمة يقظة، هي التي جعلت بعض الطامحين، وهم كلهم متواجدون في مواقعهم برغبة منه، يرفعون سقف أمانيهم والتفاوض بينهم على استبعاده وتقليص صلاحياته، حسبما تقول التسريبات الإعلامية والأحاديث الخاصة بينهم التي تسربت تفاصيلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل جس النبض ومعرفة ردود الفعل.
أخيراً، أعود للتنبيه إلى أن المطلوب في الواقع، هو تغيير الذين تسببوا في وصول مستوى الخدمات إلى الحضيض، على الرغم من الوعود التي سأمها الناس، وعجزوا عن تحقيق القدر الأدنى من الأمن والانضباط الحكومي، وهم جميعاً متواجدون من دون رغبة وطنية.