رجل ميسور طاف مشافي صنعاء كلها، في الأيام الماضية، ولم يقبله أحد. كان مصابا بفيروس كورونا وبحاجة إلى الأوكسوجين، مراكز العزل كلها ملئت على آخرها. من سيصاب الآن لن يجد له مكانا حتى وإن كان ميسورا. القرى مثل المدن، الضحايا لا يعدون، والإشارة إليهم تزعج الآخرين، وتزعجكم.
هذه الصورة من صنعاء، المدينة التي تعج بعشرات المشافي.
في الأماكن الأخرى تبدو الصورة موحشة.
مع هذه الموجة (الثانية/الثالثة) تخلى الحوثيون عن الاستعدادات التي اتخذوها قبل عام، على قلتها. لم يحددوا مراكز عزل كما فعلوا حين خصصوا مستشفيي الكويت وزايد لحالات كورونا، لم يلزموا المستشفيات الأهلية بفتح وحدات عزل، إلخ. انصرفوا لأنفسهم وأسرهم. في صنعاء تحكم سلالة، وهي الآن ملمومة على نفسها كأنها تواجه سؤالا من أسئلة الفناء.
سمحوا، أخيرا، بالكلام عن الوباء، على أن يصدر عن الأطباء لا الشخصيات الوظيفية الرسمية. اتخذوا موقفا معاكسا للعام الماضي.
قبل عام، لنتذكر، ألقى الشاب الخفيف والمهفوف طه المتوكل، وزير الصحة الحوثي، خطابا في البرلمان تحدث فيه بكلمات غريبة عن الوباء الوشيك وناح في منتصف كلامه. نال بسبب خطابه ذاك لوما وتقريعا ممن هم أعلى منه، ما دفعه للظهور مرة أخرى للحديث عن حالة واحدة: صومالي ميت! وصار ذلك يعني: ما لم تكن صوماليا وميتا فإن كل شيء سيكون على ما يرام.
في الأيام الماضية توفيت والدة زكريا الشامي بسبب الفيروس. خضعت لعملية إنعاش قلبية متأخرة وفارقت الحياة. لا يزال يحيى الشامي يصارع الظروف، على الأوكسوجين في السعودي الألماني حيث ماتت زوجته وابنه. يحيطه الحوثيون بعناية بالغة بحسبانه “عش” تلك الجماعة الإرهابية، وقد منعوا عنه كل الأنباء بما فيها خبر رحيل ابنه زكريا. شخصيات حوثية رفيعة أخرى أصيبت بالفيروس، يتكتم الحوثيون على الحقيقة ويسمحون للأطباء بتبادل الحديث العام عن المشكلة. وحتى ذلك الحين قرروا محاكمة الأطباء المشرفين على حالة زكريا الشامي. فقد تسلم المجلس الطبي شكوى رفعتها “المخابرات” تتهم الأطباء بالتقصير. على الطب أن يحول دون موت السادة، من غير المعقول أن يموتوا في كذبة أميركية وفي مستشفى سعودي، وهم أطهار تحرسهم كلمات “السيد العلم”.
الوباء طبقات، أدناها كورونا.
في رواية “جسر على نهر درينا” يتحدث أندرتش، الحاصل على نوبل، عن البلدة التي رزم عليها الدكتاتور ولم يخلصها منه سوى موجة ضارية من الصقيع أهلكت الحرث والنسل، ودفعت الديكتاتور إلى الرحيل. كان هلاك كل شيء ثمنا عادلا للخلاص من الديكتاتور
في كل البلاد يرقد أطباء في العناية المركزة، وهناك استشاريون معروفون في حضرموت وشبوة في العناية في مدنهم.
تستطيع السلطات أن: تغلق المطاعم، تفتحتها فقط للسفري وتضع أمام كل مطعم رجال شرطة لتنظيم الوقوف المتباعد في طابور. تضع حدا لحمولة الباصات والحافلات تغلق المساجد والمدارس تمنع الحفلات الجماعية تغلق أسواق القات تمنع صلوات الجمعة، وفي رمضان التراويح تلزم الناس بارتداء الكمامات قبل دخول المحلات والأماكن المغلقة
هذه الإجراءت لن توقف الوباء ولكنها ستعرقله. وبدلا عن أن يصاب ألف في اليوم سيصاب نصفهم، ثم سيهبط عدد المحتاجين للعناية.
البلد مكشوفة ومنظومة الصحة الهشة خرجت عن الخدمة. الناس بلا ظهر، والطب في لحظة عري شاملة. ما الذي سيحدث لك إن بدأت اليوم بالسعال واحتجت بعد غد لرعاية في المستشفى؟ أين ستذهب؟
قال صديق الليلة: “أنا من مديرية المظفر، الجنازة الخامسة منذ الصباح، ما الذي يحدث؟”
طبعا نحن نرى من مكانين مختلفين: أنت ترى الناس يمضون جماعات، ويكسبون حاجاتهم أنا أرى الذين يسقطون.
أنت ترى الأسواق عامرة والدنيا بخير أنا أرى المستشفيات مكتظة وأسرتها ملأى.
الوباء جاد، ترويضه ممكن، وفي كل الأحوال الكلفة عالية. لكن الكلفة تبلغ أقاصيها إذا وقفنا أمامه وقهقهنا. قالت لي مريضة ألمانية بالأمس: كنت إلى ما قبل أسبوع أقول إن كورونا كذبة سياسية إلى أن نقلوا أفضل صدقائي إلى العناية المركزة. وحدثتها عن الزوجين الذين دخلا المستشفى مصابين بالفيروس. ماتت السيدة في العناية المركزة وعندما وصل الخبر إلى زوجها السبعيني وهو في وحدة العزل فتح النافذة وألقى بنفسه إلى الخارج لولا أن ممرضة بطلة تشبثت بقدميه وبنطاله حتى وصل المنقذون. سألت الممرضة إن كانت قد أخذت اللقاح فهزت رأسها نافية ثم ألقت ببصرها إلى بين قدميها.
احم نفسك. النظافة، التباعد، العزلة. وقبل هذا عليك أن تصدق أن هناك وباء وأن هذا الوباء قد يكون مهلكا.