لحلقة الاخيرة من رواية "الارض الطيبة" ورحلة الى قصيعر ---------------- ما إن أنهى الرئيس سالمين حديثه حتى تدافع الصيادون يطلبون الكلمة . لم تكن قد ترسخت لدى هؤلاء المنتجين البسطاء تقاليد بروتوكولية ليخاطبوا سالمين بفخامة الرئيس . خاطبه أول المتكلمين : يا سالمين : هذا الصنبوق الذي تريدني اسلمه للتعاونية هو كل ما أملكه ، اقترضت قيمته من عشر سنين وعادنا استكملت سداد القرض من سنة . أنا عن نفسي موافق على الانضمام الى التعاونية ، بس عندي شرط إنني اشتغل عليه ، مش حد ثاني ، لأنني با أهتم به وبا أصونه ( اتذكر ما قاله الفلاح جريجوري في الارض الطيبة للمسئول الحزبي : موافقين على قرار التجميع لكن أريد أن تتركوا لي فرصة أن اعتني بثوري وفرسي ، أخشى أن يتعرضا للاهمال في مركز التجميع ). أوضح لهم بأن الهدف هو العمل المشترك ، وتنظيم العمل داخل التعاونية سيأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار . تناول النقاش تفاصيل حياة الصيادين في تلك المدينة ومن ذلك فرص تعليم ابنائهم ، وتخصيص مقاعد في الجامعة والمنح الدراسية ، وفتح صفوف محو الامية ، وانشاء مركز تدريب مهني للنساء في مجالات مرتبطة بحاجات الاصطياد . كانت تحديات بناء الدولة تتشابك وتتداخل مع تنظيم المجتمع وقطاعاته الانتاجية التي تؤمن تكوين القاعدة الاقتصادية ، والتي بدونها تبقى الروابط الاجتماعية للدولة هشة بل ومتنافرة .. في إطار البنى الاقتصادية تتعزز روابط المجتمع بالدولة من الزاوية التي يكون فيها البناء الفوقي ، أي النظم والقانون المعرفة ..الخ ، معبرة عن حاجة البناء التحتي : الاقتصاد ومتطلبات الحياة المادية والروحية للناس . وعلى ما في هذه اللقاءات من تفاصيل واستهلاك للوقت إلا أن قيمتها الكبيرة ، في تلك المرحلة المبكرة ، كانت تسير جنباً إلى جنب مع اكتشاف استعداد المجتمع للانخراط في عملية بناء الدولة بمشاركة يتولد معها الشعور عند الفرد بأنه مكون من مكونات هذه العملية التاريخية المعقدة . من المصادفة أن هذه الزيارة وما جرى فيها من نقاشات ستعاد في سيناريو آخر بعد عشر سنوات اي في عام ١٩٨٥وأنا نائب لرئيس الوزراء ووزير للثروة السمكية عندما كنت أزور نفس التعاونية ، وفي ظروف كانت جاذبية التعاونيات الانتاجية قد أخذت تتضاءل ، لكنها لم تكن قد فقدت قيمتها عند المنتجين . كان كثير من الصيادين الذين حضروا اجتماع سالمين موجودين . وسألت بعضهم ممن اشترط العمل على صنبوقه في إطار التعاونية عن التجربة ، كانت الإجابة العامة هي أن الامور سارت بشكل جيد ، ولكن تعويض الصنبوق في حالة فقدانه لاي سبب كان لا يتم من قبل التعاونية مما اسفر عن بقاء كثير من الصيادين بدون وسائل عمل ، كان هناك اكثر من خمسة عشر صنبوق قد فقدت أو تآكلت ، وأصبح العاملون عليها بدون عمل أو يعملون لدى آخرين . اتصلت بالاخ علي البيض وكان يومذاك وزيراً الادارة المحلية وذكرته بلقاء "قصيعر" مع سالمين ، وحاجة الصيادين لخمسة عشر صنبوق ، وعلق مباشرة انه لو كانوا قبلوا الملكية التعاونية ، كانت التعاونية عوضتهم ، قلت له اتذكر انهم لم يرفضوا ولكنهم اشترطوا أن يعملوا عليها لارتباطهم عاطفياً بها . وبعد يومين اتصل بي وقال لي ان الاخ الرئيس علي ناصر محمد امر بصرف الصنابيق . كانت الامية قد صفيت على نطاق واسع ، وكثير من أبناء وبنات الصيادين تخرجوا في جامعات مختلفة وانكعس ذلك على حياة أسرهم ، أما النساء فقد اكتسبن مهارات في مهن يدوية كثيرة . كان بناء الدولة قد خطا خطوات واسعة على طريق جعل تطوير البنية الاجتماعية قاعدة لمواطنة متساوية ، وكان العاملون في المجال الانتاجي النموذج لهذا التطور الهام . وفي حين أخذت الحياة تتجدد على أكثر من صعيد ، كان النشاط في هذا القطاع يضيق بقيود العمل التعاوني بنموذج التجميع ، منه يتسرب الصيادون الى العمل الفردي متمسكين بخدمات التعاونية ، ومنزعجين من نظام التجميع . واخذت التبدلات الاقتصادية تنتج معادلها على أكثر من صعيد