"مجنون الشريعة"

محمد مصطفى العمراني
الخميس ، ٠١ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٩:٥٤ مساءً
مشاركة

في قريتنا التي تنزوي في أعماق ريف اب يعرف الجميع الحاج غالب بعمامته البيضاء المزينة بالمشقر الأخضر والكوت الابيض وثوبه المنقط ببقع الحبر من القلم السائل وكيسه المليء بأوراق وبصائر وأحكام وفروز وبراهين ، لقد بلغ بلغ الحاج غالب من العمر أرذله ومع هذا تجده مداوم في محاكم اب والعدين بشكل يومي حتى صارت المرافعات أمام المحاكم " الشريعة " عشقه والهواء الذي يتنفسه وصار معروف لدى كل القضاة والمحامون ، كما أنه يعرفهم أكثر مما يعرف أولاده ويعرف منازلهم وأولادهم وأين عملوا وإلى أي محكمة انتقلوا وما هو الحكم الذي صدر في القضية الفلانية ومن القاضي الذي حكم في قضية بني فلان وفي اي جلسة وما هو نص الحكم ويعرف أصحاب القضايا اذ صار على هذا الحال منذ أكثر من نصف قرن ، أسوأ كوابيس الحاج غالب أن تتوقف المحاكم أو حتى تأخذ إجازة حينها يداهمه الفراغ ويقتله الضجر ولا يدري ماذا يصنع ؟!   فيظل في منزله يسير ويكلم نفسه وينصب محاكم ومرافعات في خياله ويصدر الأحكام ويحبس المتهمين حتى يكاد يصاب بالجنون .!    ويظل على هذا الحال يوما أو يومين ثم يغادر المنزل باحثا عن اي قضية ويتنقل من شيخ لآخر ويحاول اختراع قضايا وافتعال مشاكل واحداث مرافعات لدى المشايخ والعقال وهي حالة مستعصية لرجل عرف المحاكم في مقتبل عمره حيث أرسله أبوه ليترافع في قضية أرض لهم ولأن القضية طالت وطولت وكما يقال " حبال المحاكم طويلة " فقد ظل الرجل لسنوات متفرغا لقضية الأرض تلك وقد اندمج في الدور وانسجم مع الأجواء وتكيف وتسلطن في هذا الجو وصار لا يجيد غيره ولا يتقن سواه وصار يعمل وكيل شريعة يتطوع بالتوكل لأي شخص ويحشر أنفه ويكشح نفسه في اي قضية ، المهم أن يظل يشارع ويحضر محاكم ومجالس شرائع ويعيش في هذا الجو حتى صارت المرافعات " الشرائع " تجري في دمه ، لقد تزوج وكبر أولاده ودرسوا وتغربوا وتزوجوا وخلفوا وهو يشارع ويعيش في المحاكم حاملا كيسه الممتلئ بالأوراق والبصائر والأحكام ، وحين تغلق المحاكم أبوابها يعود إلى القرية حزينا شارد الذهن ويبيت يحدث أهله عن قضية بني فلان وقضية بني فلان والقاضي الفلاني وذلك المحامي وما حدث في تلك الجلسة وبماذا حكم القاضي في قضية بني فلان وما حصل في الاستئناف دون أن يستمع له أحد .! 

في أيام اجازات المحاكم يظل يدور في طرقات وأسواق القرية ويتلبج ويسأل هل في مضرابة حدثت ؟ أو مشاكل على أرض ؟ أو نزاع حول جربة أو شجرة ؟ وحين يبشره أحدهم بحدوث أمر كهذا في قرية مجاورة يتهلل وجهه وتنفرج اساريره وينكع كأنه شاب فتي ولسان حاله : فرجت .!  وعلى الفور يتجه إلى مكان النزاع ويحشر أنفه في الموضوع بأي طريقة حتى إن عارضوه وطلبوا منه السكوت وعدم التدخل .

حاول أبناء الحاج غالب مرارا أن يقنعوه بأن يستريح في المنزل وسيوفرون له ما يشاء لكنه رفض ، عرضوا عليه الأموال الطائلة وحاولوا إغراءه بأشياء كثيرة لكنه أخبرهم أن الانقطاع عن المحاكم والشريعة يعني موته المؤكد وأن سعادته ومتعته في هذا المجال وأنه عاشق للشريعة التي تسري في دمه ولا فائدة من الإلحاح معه لتركها . 

ذات مرة أخبره أحدهم بأن بني فلان قد تضاربوا عل أرض ففرخ فرحا شديدا وتحرك يحث الخطى إليهم وفي الطريق أخبره أحدهم بأن فلان الفلاني قد تدخل بينهم وانتهت المشكلة وتم حلها وتم الصلح وعاد كل شخص إلى بيته فغضب غضبا شديدا ورمى بعصاه وكيس الأوراق وهو يصيح : قبح الله وجهه ما صدقنا لقينا قضية نتدخل ونشارع فيها ويقع جلسة ومحكم قام حلها .!!  ما هو هذا الآدمي ؟! ذلحين وين نروح ؟!  حسبنا الله ونعم الوكيل .!!

منذ سنوات انقطعت أخباره عني وقبل أشهر لقيت أحد أقاربه فسألت عنه فانفجر ضاحكا واخبرني بما حدث له مؤخرا  حيث قررت المحاكم أخذ إجازة بسبب كورونا فعاد إلى القرية ولما لم يجد قضية يتدخل فيها مرض مرضا شديدا وتم اسعافه إلى أحد مستشفيات مدينة اب وجاء أولاده لزيارته فالرجل المسن - الشيبة - يشرف على الموت وعندها أوجد أحد أولاده حيلة طريفة تعيده إلى صحته ونشاطه ، لقد جاء بأشخاص لا يعرفهم والده وافتعلوا -  بالتنسيق مع الأطباء الذين تفهموا حالته - شجارا كبيرا وصياحا قرب مكان رقوده ثم جاءوا إليه لتحكيمه فيما شجر بينهم ووضعوا عنده الشيلان جاه الله ومفاتيح السيارات - العدال - وحينها دبت فيه الصحة وعادت إليه الحيوية وقام من رقدته ورمى بقصبة المغذية صائحا في وجه الممرض :  - روح أنت وحقك المحلول خلونا نحكم بين الناس ونحل القضية . ثم قام سليما نشيطا ليحكم في تلك القضية الوهمية .!

اليوم - وربما بسبب الفراغ - بدأ  بعض أقاربي يسيرون في هذا الطريق على خطى الحاج غالب " مجنون الشريعة "ولا شك أن قصته ستتكرر من خلالهم لتتحول من حالة خاصة إلى ظاهرة .!