مشوار مؤجل!!!

سناء مبارك
الخميس ، ٢٩ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ١٢:١١ صباحاً
مشاركة

كان هذا المشوار مؤجلًا منذ يومين، الحر في القاهرة رهيب، درجة الحرارة تقارب الـ 45 درجة مئوية والساعة تشارف على الثانية عشرة ظهرًا، أفاقتْ قبل هذا الوقت بساعتين، كانت تشاور نفسها في أن تؤجل هذا المشوار مرة أخرى إلى يوم آخر وظلتْ على هذه الحالة حتى جاءتها حماسة مفاجئة فقررتْ النزول !

من مكانها إلى المشوار المزمع في "وسط البلد" اتخذ السائق أقصر الطرق التي لم تشفع لهما أمام زحمة القاهرة الخانقة، وصلت أخيرًا إلى وجهتها في الساعة الثانية ظهرًا أي بعد أن غلّقت المصلحة أبوابها، لأنها لم تكن على علم بأن مواعيدهم تغيرت في رمضان وأن نهاية الدوام أصبحت متقدمة بساعتين عن ميقاتها المعتاد، شعرتْ بالاختناق والضيم، تمتمتْ لنفسها : كان يجب أن أتصل قبل القدوم، كان يجب أن أعرف هذه المعلومة.. صديقتنا لا تتقبل هزائمها بسهولة حتى ولو كانت على هيئة "مشوار معطّل"..

قررت أن تذهب إلى "المهندسين" حيث كان المفترض أن تستلم أوراقًا لأمر ما، لعلها تعوض خسارة هذا اليوم.. فتحت جوالها وراحت تطلب تاكسي من شركة تقدم خدمات التوصيل داخل القاهرة، لكنها عجزت عن إدخال الوجهة المطلوبة، في كل مرة كان جهاز الهاتف يعلق وتحتاج إلى الخروج من التطبيق، بعد ربع ساعة من صراعٍ مضنٍ في مجابهة عدوتها اللدودة "التكنولوجيا" قررتْ أن تستسلم تحت وطأة التعذيب بسياط هذه الشمس الحارقة التي فجّرت دماء وجهها..

توجهت للرصيف مهزومة للمرة الثانية، بدأت التلويح لسيارات الأجرة التي كانت تتوسم احتواءها على تكييف، كان يمر من أمامها الكثير منها، يتوقفون فتطلب أن يقلها أحدهم إلى المهندسين لكن السائقون جعلوا يرفضون اقتراحها مرة بعد الأخرى وهو ما وجدته أمرًا غير منطقي، كان الإنهاك قد أصابها حينما مرت سيارة قديمة ومهترئة، لوحت لصاحبها فتوقف ووافق على أن يأخذها، قلبت الفكرة في رأسها خلال ثانيتين تلتا ووجدت أن اختيار الحر داخل السيارة المهترئة أهون من انتظار التكييف الذي قد لا تعثر عليه في سيارةٍ غيرها !  مرت نصف ساعة كاملة وطويلة، معبأة بالهواء الحار وضوضاء الزمارات التي انطلق بعضها من "كلاكسات" السيارات والبعض الآخر من حناجر السائقين الثائرين على خواء بطونهم..كانت القاهرة تعب هواء الأرض وتزفره في وجوههم قيظًا ورمادًا.. لازالوا يراوحون مكانهم في وسط زحام أحد شوارع وسط البلد، كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر.. تذكرتْ صديقتنا فجأة أن اليوم هو الخميس وأن المكتب يغلق أبوابه عند الثالثة، لم تكن على استعداد لمواجهة هزيمة ثالثة وإن منيت بها لتوها، طلبت من السائق تغيير وجهته إلى المنطقة التي تقيم فيها، لتعود خالية الوفاض تحمل شرف المحاولة، وافق على ذلك رغم أن المسافة كانت قد تضاعفت.

في منتصف الطريق وعلى بعد 5 كيلومترات من الوصول تلقى السائق اتصالًا شحب بعده وجهه ونكأت له عيناه، كان أحدهم على الطرف الآخر من الخط يبلغه بأن " والده" قد توفى.. بعد أن أغلق السماعة غرقا في دقائق من الصمت الرهيب، عجزت فيها صديقتنا عن مواساته في مصابه الذي ذرف بسببه دموعًا عصية ونبيلة غمرتْ مدخل الحديث.. كان يكمل السياقة عندما شعرت أنه من الضروري أن تبادر بالتعازي وتطلب منه ان تترجل هي كي يكمل وجهته نحو سفر يبدو أنه في صدده، فحسب ما فهمت من تلك المكالمة كان والده يقيم في مكان ما خارج القاهرة وكان يتعين عليه حضور الجنازة هناك.. طلبت منه النزول لكي يذهب في سبيله ولكنه رفض وأخبرها أنه سيوصلها !

فيما تبقى من الطريق كان يجري المكالمات بالأهل والأصدقاء، يسلم عليهم بود ولطافة ويخبرهم عن حاجته لمبلغ معين كي يسافر به إلى "البلد"، كان عزيز النفس ومهذبًا في الطلب ومتعففا في السؤال، حتى أنه لم يستخدم فجيعته كأداة للحصول على التعاطف ومن ثم المال ، كان يقول عندما يسأل عن ارتجاف صوته : " مفيش حاجة بس كنت مزنوق حبتين".. ضاقت به السبل.

كانت آخر مكالمة أجراها قد انتهت للتو عندما وصلت وجهتها، فتشت صديقتنا محفظتها ووجدت المبلغ الذي كان يطلبه بحوزتها، سلمت له "أجرته" التي قابلها بانفعال كبير وراح يصرخ "بس ده كتير، جزاكم الله خيرًا، مش عارف أقول لحضرتك إيه" ..

مضى هو في سبيله يكفكف دموعًا انهمرت بغزارة، وراحت هي تترنح من فرط دهشتها لهذا التدبير العجيب.. في دقائق لاحقة مرتْ أمامها الهزائم التي توالت منذ الصباح.. لقد كان تقاعسها في البداية لسبب، وعدم معرفتها بموعد المصلحة وتجشمها العناء لسبب، وتعطل هاتفها وعناده لسبب، ورفض سائقي التكاسي "المكيفة" لقلّها لسبب، وتغيير وجهتها لسبب، كان خروجها كله لسبب، ولقائها بهذا الرجل المسكين لسبب.

ما أجمل أن يختارك القدر سببًا وأداة لعطاياه.. وما أجمل حين ترى هذا التدبير الحاني ماثلًا أمامك، يعيد إليك توازن نفسك، ورضا قلبك وامتلاء وجدانك ! فتشعر أن الله الكريم لن يتركك أيضًا، وقادر على أن يرزقك من العدم ويهيء لك الأسباب دون أن تدري. ما أجمل حين يجعلك القدر سببًا لسعادة أحدهم أو تفريجًا لهمه.. فإن لم يجعلك، حاول أن تكن ! فلعل أسباب التيسير تغمرك أيضًا حين تحتاجها!