رغم أنَّ المنصور القاسم بن محمد (1006هـ – 1029هـ) مؤسس الدولة القاسمية – أو الدولة الثالثة كما أسماها البعض – كما يقول غالبية مؤرخي الإمامة من نسل الهادي يحيى بن الحسين، إلا أنَّ بني عمومته من آل شرف الدين في كوكبان، وآل الـمُؤيدي في صعدة، وقفوا في الغالب ضده، وكذلك فعل الحمزات؛ والسبب عدم اعترافهم بنسبه، الأمر الذي حفزه على مُحاربتهم.
كان والده أحد أبرز رجالات المُطهر شرف الدين؛ إلا أنَّ أحفاد الأخير وقفوا ضده؛ كونهم كانوا حينها حُكامـًا لعدد من المناطق باسم الدولة العثمانية، ليبدأ عهده بقتالهم؛ لأنَّ قتال البغاة عنده مُقدم على قتال الكفار، ومن صعدة توالت تمردات العلويين عليه وعلى خلفه ولده المُؤيد محمد (1029هـ – 1054هـ)، ولم تخضع تلك الجهة لحكم الأخير إلا بعد أن كلفته الكثير.
وفي كل قرية خليفة!!
بوفاة الحسن بن القاسم شوال 1048هـ، بدأت ملامح صراع مراكز القوى الحاكمة القاسمية تطفوا على السطح، ليتبدى ذلك وبقوة منتصف العام التالي، وذلك بتمرد أحمد بن الحسن الذي اعترض على عدم إحلاله مكان أبيه، دارت مُواجهات محدودة بين أنصاره وأنصار عمه الإمام، كلفت الجانبين عشرات الضحايا، تم الصلح بينهما لبعض الوقت، ثم دارت حروب وخطوب أجبرت الأمير المُتمرد على الهروب جنوبًا.
توفي المُؤيد محمد رجب 1054هـ، فأعلن شقيقه أحمد من شهارة، وصنوه إسماعيل من ضوران نفسيهما إمامين مُنفصلين، تلقب الأول بـ (المنصور)، وتلقب الثاني وهو الأصغر سنًا بـ (الـمُتوكل)، دارت حروب بينهما، انتصر في آخرها الأخير.
توفي المُتوكل إسماعيل جمادي الآخر 1087هـ، فأعلن من الغراس أحمد بن الحسن نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المهدي)، ليعارضه أخوه الحسين من ذمار، مُتلقبًا بـ (الواثق)، والقاسم بن المُؤيد محمد من شهارة، مُتلقبًا بـ (المنصور)، وعلي بن أحمد من صعدة، مُتلقبًا بـ (المنصور)، ومن غير الأسرة القاسمية أعلن أحمد بن إبراهيم المُؤيدي من العشة، وعلي الشامي من خولان، وعبدالقادر شرف الدين من كوكبان، ومحمد الغرباني من برط، ليستقر الأمر بعد حروب وخطوب للأول.
بعد رحيل المهدي أحمد عاد الضجيج من جديد حول من يَخلف الإمام المتوفي، ليقع الاختيار على محمد بن المُتوكل إسماعيل، تلقب بـ (المُؤيد)، وعارضه من عارضوا سلفه، بالإضافة إلى أخوته علي في إب الذي تلقب بـ (الناصر)، والحسن في تهامه، والحسين في صنعاء، وأبناء عمومته الحسين بن محمد في عمران الذي تلقب بـ (المُتوكل)، ومحمد بن المهدي أحمد في الحجرية الذي تلقب بـ (الناصر).
مُنتصف العام 1097هـ، وبعد وفاة المُؤيد محمد، ارتفعت وتيرة الخلافات القاسمية – القاسمية، أمراء كُثر أعلنوا أنفسهم أئمة، ودارت حروب وخطوب يطول شرحها، أوجزها صاحب (الجامع الوجيز) بقوله: «افترق آل الإمام فرقًا، ومُلئ بعضهم من بعض فَرَقا، فطمع الكل بالإمامة، وكادت تقوم القيامة.. وصارت الأرض جيفة، وفي كل قرية خليفة».
استقر الأمر في النهاية على الناصر محمد (صاحب المواهب) في الحجرية، ويوسف بن الـمُتوكل إسماعيل في ضوران، تلقب الأخير بـ (المنصور)، وحظي بمساندة ودعم غالبية أمراء أسرته، أرسلهم أواخر ذات العام بجيش كبير لمحاربة مُنافسه، إلا أنَّ أمطار السماء، ومناعة قلعة المنصورة حالت دون تحقيقهم النصر، دارت الدائرة عليهم، فنكل الناصر محمد بهم جميعًا، ليغادر الأخير الحجرية شمالًا لإخماد تمردات أخرى أشد ضراوة، وكانت أطول حروبه مع إمام صعدة المنصور علي.
السجون تملتئ بالأقارب
رغم انتصاراته، لم يرعَ صاحب المواهب لقراباته حرمة، نكل بهم شرَّ تنكيل، وكان من جُملة من حبسهم صنوه إسحاق، وولداه عبدالله، ثم المحسن، وقد توفي الاثنان في السجن، وكان من جملة من وزعهم على سجونه: عمه الواثق الحسين، والمنصور يوسف، والمنصور القاسم، وابن أخيه القاسم بن الحسين، فيما هرب الحسين بن الـمُتوكل إسماعيل، وأخيه الحسن، وحسن بن المنصور يوسف، وعبدالله بن يحيى، والمُتوكل الحسين بن عبدالقادر إلى مكة.
وفي رجب 1111هـ أعلن إبراهيم المحطوري العياني من حجة نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المنصور)، لم يصمد أمام الحملات التي أرسلت من صنعاء لمُحاربته كثيرًا، هرب شمالًا، قبض عليه إمام صعدة، صلبه مدة، ثم احتز رأسه، وقد بلغ عدد ضحايا تلك الفتنة حوالي 20,000 قتيلًا.
بدأت إمامة صاحب المواهب أواخر العام 1224هـ تترنح، وذلك بعد أن أعلن الحسين بن القاسم من العصيمات نفسه إمامًا، وتلقب كأبيه بـ (المنصور)، وناصرته غالبية القبائل الشمالية، وحظي بدعم وإسناد عدد من بني عمومته.
حروبٌ كثيرة دارت، ودماء سُفكت، وحُرمات انتهكت، ومدن وقرى نُهبت، وهزائم توالت على صاحب المواهب، لم يرفع الأخير راية الاستسلام؛ بل ظل يناور، وحين لم تنجح أساليبه في شراء الذمم بتغيير المُعادلة؛ لم يجد أمامه من خيار سوى الاستنجاد بابن أخيه القاسم، أخرجه من السجن، ووجهه من المواهب شمالًا.
حقق القاسم لعمه بعض الانتصارات، وحين رأى ألا سبيل لإخماد تلك التمردات، أعلن هو الآخر من عمران عصيانه صفر 1127هـ، التف الناس حوله، وأرادوا مُبايعته، فاقترح عليهم المنصور الحسين، اجتمع بالأخير، وصار من أكبر قادات جيشه، وكذلك فعل أبناء عمه إسحاق.
ملاحقة وإفقار لأبناء العمومة
رغم أنَّه مستوف شروطها، لم يكن للمنصور الحسين من الإمامة سوى الاسم، عزله قائد جيشه القاسم بن الحسين، فاختار علماء صنعاء الأخير إمامًا ذو القعدة 1128هـ، تلقب بـ (الـمُتوكل)، دارت حروب وخطوب، ولم يبق تحت سيطرة الأول سوى شهارة، والسودة، والشرفين، وبقي رغم هزيمته على دعوته حتى وفاته شعبان 1131هـ.
صفت الإمامة بعد ذلك للمُتوكل القاسم، جعل من مدينة صنعاء عاصمة له ولمن بعده من الأبناء والأحفاد، مُؤسسًا بذلك لحكم أسرته، ولأكثر من 120 عامًا. لم يكتفِ في إقصاء بني عمومته، وتحييدهم؛ بل ذهب أبعد من ذلك، أخذ ما تحت أيديهم من أموال، وأمعن في إذلالهم، وسعى لمُلاحقة المُتذمرين منهم، وزج بهم في السجون.
استاء القاسميون من تلك التُصرفات، أرسلوا وفودهم للمُراجعة، إلا أنَّه – أي الإمام – لم يعرهم أي اهتمام؛ الأمر الذي أنعش في نفوسهم الرغبة في التمرد والانتقام، هربوا في العام التالي إلى أرحب، ومعهم محمد بن إسحاق، نصبوه إمامًا، تلقب الأخير بـ (المُؤيد)، ليجنح بعد حروب وخطوب للسلم.
صراع الأب والابن والإخوة
اختلف المُتوكل القاسم قبل وفاته مع ولده الحسين حاكم عمران، كان الأخير يتطلع لزيادة نصيبه في الإقطاع، استغل سخط القبائل، وسعى لتمتين علاقته مع كبرائها، وقاد بنفسه الجموع الغاضبة صوب صنعاء، دخل الأخيرة بمجاميعه 21 رمضان 1139هـ، وأبوه طريح الفراش، لم يكترث لمرضه، ولم يقم حتى بزيارته، ليلفظ الأخير في اليوم التالي أنفاسه.
بوفاة المُتوكل القاسم بن الحسين ارتفعت وتيرة الصراع القاسمي – القاسمي، تنافس ثلاثة من نفس الأسرة على الإمامة، وحظوا بمبايعة أغلب الأنصار، تنحى كبيرهم المنصور يوسف، فانحصر الصراع بين اثنين منهم محمد بن إسحاق، والحسين بن القاسم، كليهما تلقبا بـ (الناصر)، وكلاهما عاثا في المناطق الشمالية نهبًا وخرابًا.
وما هي إلا سنوات معدودة حتى اختلف الإمام المُنتصر الحسين بن القاسم، والذي غير لقبه إلى (المنصور) مع أخيه أحمد حاكم تعز، وقد انتهى ذلك الصراع بصلح مؤقت، وما هي إلا سنوات أخرى معدودة حتى تجدد الصراع، فقدم حينها الشاعر أحمد الرقيحي حله الناجع لذلك الإشكال المُتجدد قائلًا:
صنوان قد سقيا بماء واحد
والفضل خال من كلا الأخوين
جرحا قلوب العالمين فما لها
من مرهم إلا دم الأخوين
توفي المنصور الحسين ربيع الأول 1161هـ، والصراع بينه وبين أخيه أحمد على أوجه، ورث ولده عباس الذي تلقب بـ (المهدي) ذلك الصراع، فيما تمادى العم في طموحاته، وأعلن نفسه إمامًا، تلقب بـ (الهادي)، وانفصل بتعز، وإب، ولم ينته ذلك الخلاف إلا بوفاته في العام التالي، وكم كان الشاعر الرقيحي مُحقًا في تشبيهه، إذا ما اعتبرنا دم الأخوين نهايتهما.
وفي عهد المنصور علي بن المهدي عباس (1181هـ – 1224هـ) تمرد أهالي الروضة بإيعاز من آل الكبسي، وآل أبي طالب شوال 1222هـ، وحين تقوى أمرهم، رام بعضهم خلع الإمام، وتنصيب الحسين الكبسي بدلًا عنه، فشلت جهود الوسطاء في إيقافهم، فخرج إليهم أحمد بن الإمام، قبض على قادتهم، فيما تشفع لهم العلامة محمد بن علي الشوكاني من موت مُحقق، أودعوا السجن، ليموت الكبسي مع بداية العام التالي في دهاليزه.
وفي عهد المهدي عبدالله بن المتوكل أحمد (1231هـ – 1251هـ) أعلن أحمد السراجي نفسه إمامًا جمادي الأولى 1247هـ، تلقب بـ (الهادي)، وناصرته بعض القبائل، زحف بهم لمُحاصرة صنعاء، إلا أنَّهم تفرقوا بعد أنْ أغدق إمامها على كبرائهم بالأعطيات، عاد مرة أخرى إلى نهم مُنطلق دعوته، ليحشد القبائل مرة أخرى، فدس له المهدي من قتله غيلة بضربة سيف صفر 1248هـ.
– الصورة في صعدة أثناء حكم بيت حميد الدين