هذا النوع من التمييز الاجتماعي هو من أشد أنواع التمييز الاجتماعي خطورة وإضراراً بوحدة أي مجتمع والحقوق الإنسانية المتعارف عليها، وهو التمييز السلالي والعنصري الذي يتجاوز خواص التمييز الاجتماعي السلبي المكتسب من خلال المهنة أو المنطقة أو المذهب القابل للتغيير والتعديل من السلب إلى الإيجاب عن طريق تغيير النظرة السلبية المغلوطة إلى اختلاف المهن والمناطق والآراء والمذاهب السياسية والدينية باعتبارها تمييزاً وتفرقة سلبية إلى النظرة الموضوعية السليمة إليها باعتبارها تميُّزاً وتنوعاً إيجابياً ضرورياً لبناء المجتمع واستمراريته وتجدده. يتجاوز التمييز السلالي العنصري الخواص الاجتماعية المكتسبة من الخارج والقابلة للتغيير إلى الخواص البيولوجية الوراثية في الداخل وغير القابلة للتعديل أو التغيير الاجتماعي، لأن هذا النوع من التمييز يفترض، بدون حق أو حقيقة من عقل أو دين أو علم، وجود أنواع من البشر يتميز بعضها عن البعض الآخر إما بالسمو أو الانحطاط بيولوجياً، وبحكم المولد والسلالة، وليس مجرد المهنة أو المذهب أو المكان، والتي تصبح عوامل ثانوية غير ذات أهمية بجانب خاصية المولد والوراثة السلالية العنصرية، فالأبيض أبيض بحكم لونه ومولده، والأسود أسود وبحكم لونه ومولده أيضاً في منظور التفرقة العنصرية في أوروبا وأمريكا، كما هو حال برهمانات الهند ومنبوذيها أو سادة وأشراف العرب وسوقتها، ولكل من هذا الطرف وذاك خواصه البيولوجية التي يترتب عليها العديد من حقوق وواجبات التمييز السلالي والعنصري من قبل كل طرف تجاه الآخر. حيث يمكن اختصار معنى ودلالة قصة هذه القضية القديمة/ الجديدة في تاريخ وحياة المجتمعات البشرية بأنها التمييز الأسوأ بلا أدنى تميز حقيقي يُذكر، والتفرقة العنصرية الأخطر في حياة البشر؛ لأنها تفترض وهماً وتدعي كذباً وجود أنواع مختلفة من البشر تختلف بحكم مولدها ولونها ومكانها ودمها ولحمها سمواً أو انحطاطاً، وهو ما لا سند له من عقل أو علم أو دين، ولا حجة له من منطق أو واقع، لأن الله قد خلق البشر متساوين دون تمييز بيولوجي أو عقلي يذكر بين أبيض وأسود أو غني وفقير لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام “الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب”. أما إذا أردنا أن نتعرف على السبب وراء دوافع كل أشكال التمييز الاجتماعي بصفة عامة والتمييز السلالي والعنصري بصفة خاصة فهو بالمختصر المفيد دافع قهر واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، والتمييز العنصري والسلالي هو أشد أنواع هذا القهر وهذا الاستغلال بشاعة ووحشية وتجاوزاً للمعايير والقيم الإنسانية. أما إذا أردنا التعرف على مدى شيوع هذا النوع من التمييز السلالي والعنصري في المجتمع اليمني كنموذج فهو ما يمكن تتبعه في البنود التالية: 1- الأشكال والأبعاد الاجتماعية للتمييز السلالي والعنصري بلا تميز بشكل عام هناك أشكال رئيسية من أوهام التميز السلالي وواقع التمييز العنصري في اليمن وغير اليمن يمكن ترتيبها تصاعدياً من الأبسط والأقل خطورة إلى الأعقد والأكثر خطورة وضرراً، بدءاً بالتمييز السلالي العائلي، مروراً بالقبلي فالقومي، وصولاً إلى التمييز الفئوي، وعلى النحو الآتي: أ – التمييز السلالي العائلي صعوداً التمييز السلالي العائلي صعوداً إلى أعلى يبدأ باكتساب شخص ما لمزايا اجتماعية حقيقية في مجتمعه العام أو المحلي تتعلق بمناصب الدولة العامة (أمير، وزير، قاضٍ، قائد، عسكري)، أو الدور والمكانة الاجتماعية (شيخ قبيلة، رجل دين، فقيه شرع، صاحب ثروة، أو تجارة، أو جاه أو مواقف بطولية ووطنية عامة… الخ)، وغالباً ما تنتقل هذه المزايا من الأب المؤسس إلى الأبناء والأحفاد ومن يليهم، لكنها في الغالب الأعم لا تدوم كمزايا فعلية وواقعية، بحيث لا يستمر الوزير وزيراً ولا القاضي قاضياً ولا شيخ القبيلة شيخاً ولا الفقيه فقيهاً ولا رجل الدين رجل دين بالوراثة إلى ما لا نهاية، حيث قد تصبح الأجيال التالية من أبناء وأحفاد الأمير أو الوزير أو القاضي الفعلي أو الشيخ أو رجل الدين والمتفقه فيه أناساً عاديين جداً لا علاقة لهم بأعمال ومهن وأدوار أسلافهم، بل ربما يصبح الأبناء والأحفاد يحملون صفات اجتماعية عكسية تماماً كمجرمين ولصوص وجهلة وسفهان… الخ، وهذا هو منطق الحياة وجدليتها وسنتها في التغيير والتبدل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. لكن المشكلة التي يتحول معها هذا التميز والتنوع الإيجابي وتغيراته الموضوعية والحتمية المرغوبة أو غير المرغوبة بالنسبة لنا إلى تمييز اجتماعي وسلالي لا أساس له من منطق ولا حقيقة له في واقع، وذلك حينما يطلق على عائلة الوزير بيت الوزير، وعائلة القاضي بيت القاضي، والشيخ بيت الشيخ، والفقيه بيت الفقيه، إلى ما لا نهاية وبدون أي مسوغات موضوعية حتى ولو قد صارت الأجيال اللاحقة للوزراء والفقهاء والمشايخ والقضاة ورجال الدين جهلة وسفهاء ولصوصاً، لكنهم يظلون يحتفظون بإصرار بخواص ومزايا أجدادهم الإيجابية ومطالبة المجتمع بالإقرار لهم بالحقوق المادية والمعنوية المرتبطة بذلك على الأقل، والواجبة لهم عليه استناداً إلى ذلك الموروث الذي يتحول من حق وميزة مكتسبة للآباء والأجداد إلى حق معنوي وراثي ثابت، ودون توفر أساسه الموضوعي وفقاً لمبدأ التمييز بلا تميز. والأسوأ في الأمر أن المجتمع كثيراً ما ينصاع بحكم قوة العادة والوعي الزائف والمتخلف للاستجابة لمثل هذا الأمر ويرتب عليه حقوق اجتماعية خطيرة في التزاوج والأعمال والمهن والحقوق والواجبات، وهذا هو ما كان يلاحظ بكثرة في المجتمع اليمني قبل الثورة 1962 وما أخذ في التغير والتقلص بعدها وحتى الآن، إلا أنه لا يمكن القول بنهايته، بل بإمكانية المزيد من تقليص أضراره الاجتماعية التي ما تزال غير مقبولة والتي بدأت موضوعية اجتماعية مقبولة وانتهت سلالية غير مقبولة وغير موضوعية، أو بتعبير أوضح كثيراً ما يتم تحويل التميز الاجتماعي الإيجابي المكتسب عن حق للشخص إلى تمييز اجتماعي بالوراثة لأولاده وأحفاده بغير حق. ب- التمييز السلالي هبوطاً وما ينطبق على التمييز السلالي العائلي صعوداً، كما أسلفنا، ينطبق بشكل معاكس على التمييز السلالي العائلي هبوطاً إلى أسفل، والذي يبدأ باكتساب بعض أفراد المجتمع العاديين لبعض الصفات أو الخواص والتصرفات والأفعال غير المقبولة اجتماعياً، كالسرقة وارتكاب الجرائم المخلة بالشرف والسمعة السيئة أو المنافية للأخلاق، وما يترتب على ذلك من هز عنيف للمستويات الاعتبارية المقبولة لمثل هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم والانحدار بها إلى أسفل وما هو غير مقبول من التمييز الاجتماعي السلبي ضدهم، ومثل هذه العقوبة الاجتماعية المتعلقة بموقف ونظرة المجتمع ككل –ناهيك عن العقوبة القانونية الرسمية– قد تكون مقبولة بل وضرورية أحياناً كتجسيد لمبدأ المسئولية والضبط الاجتماعي والعقوبة الاجتماعية والقانونية العادلة كأن تتم مقاطعة وعزل شخص ارتكب جرماً اجتماعياً عاماً ومشيناً في حق أهله أو قريته أو مجتمعه المحيط فينبذونه ويبرأون منه، وهذا شائع في الأعراف الاجتماعية على الأقل، لكن ما لم يكن مقبولاً هو تعميم النظرة والعقوبة الاجتماعية على غير الفاعلين من أسر وعائلة الفاعل المباشر، بل وتوريث هذه النظرة والعقوبة على الأجيال القادمة للعائلة أو الأسرة إلى ما لا نهاية، وكثيراً ما ينسى الحدث الفعلي لكن التمييز الاجتماعي يستمر ويتحول بذلك من مجرد فعل اجتماعي فردي سلبي مكتسب للفاعل الأول وأسرته من واقع الحدث إلى تمييز سلالي بالوراثة رغم انقضاء الحدث وفاعله ونسيانه من ذاكرة العقل الجمعي للمجتمع. وأبرز مثل على ذلك، مثلاً قضية أو قصة “الدودحية” التي تحولت من واقعة عادية لفتاة قروية وقعت في الخطيئة نتيجة رفض أهلها تزويجها من ترغب في الزواج منه، وتحولت إلى حكاية شعبية وفنية واسعة النطاق في الأدب الشعبي اليمني، وكما في حالات ارتكاب العيب الأسود في العادات والأعراف القبلية والذي يُعَيَّرُ فيه الفاعل وأهله وذريته من بعد إلى ما لا نهاية. جـ- التمييز غير المبرر أما الأسوأ من كل ما سبق في عملية التمييز الأسري والعائلي فهو ما ترتبط بداياته الأولى بوقائع وأفعال وأعمال غير منحرفة أو مشينة أو ضارة اجتماعياً بل أعمال وأفعال مفيدة ونافعة لأصحابها والمجتمع ككل، ومع ذلك يترتب على أصحابها ممارسة التمييز الاجتماعي والسلالي ضدهم ما قد يتجاوز نظرة وعقوبة ذوي الأفعال المشينة السابقة، ومن ذلك أعمال الحلاقة والجزارة والحدادة والحياكة وأعمال النظافة العامة والخدمات المنزلية وزراعة وبيع الخضروات… الخ، حيث يعاني كل المشتغلين بمثل هذه الحرف والمهن تقليدياً أو من يلتحق بها حديثاً من أي مستوى، حالة حادة من التمييز الاجتماعي والسلالي المتوارث ضدهم من قبل المجتمع، حتى ولو تركوا مثل هذه الأعمال والمهن إلى أعمال ومهن أخرى لاحقاً، فإن ذاكرة المجتمع ونظرته التمييزية لهؤلاء لا تتغير تلقائياً بتغير المهنة، بل تظل مرتبطة بالبعد الوراثي والسلالي القديم لممارسة المهنة، حيث يتراجع الأصل والسبب الاجتماعي المكتسب لهذه النظرة التمييزية المغلوطة أو ينسى تماماً ويتكرر ويستمر البعد السلالي المفتعل، بصرف النظر عن استمرارية ممارسة المهنة من عدمه، ويتحول بذلك السبب الاجتماعي المكتسب أو المفتعل لهذه النظرة الاجتماعية التمييزية الخاطئة للمهنة وصاحب المهنة من متغير أو سبب رئيسي مرتبط بالمجتمع إلى متغير تابع أو سبب ثانوي لمتغير رئيسي آخر هو الوراثة أو السلالة، وبذلك يتحول السبب الرئيسي في هذه النظرة “أي المجتمع” إلى سبب ثانوي، والسبب الثانوي “أي توارث المهنة ونظرة المجتمع السلبية الخاطئة إليها إلى سبب رئيسي”. ما يعني في النهاية أن ما يتسبب فيه المجتمع من النظرة التمييزية والاجتماعية الخاطئة لمثل هذه الأعمال والمهن المفيدة يتم تجذيره وتكريسه بما هو أسوأ من النظرة التمييزية الوراثية والسلالية الأكثر خطأً وسوءاً، وهذا ما لا يجري في المجتمع اليمني فحسب، بل نجد له الكثير من الامتداد على مستوى المتجمعات العربية وغير العربية وبحدود نسبة مختلفة من الحدة أو البساطة، حيث يشهد المجتمع اليمني المعاصر حالة حراك دؤوبة في هذا الصدد في الاتجاه الإيجابي، وإن كانت بطيئة ومتعثرة أحياناً، وتلعب السياسات التربوية والاجتماعية والثقافية العامة دوراً حاسماً في الدفع بهذا الحـراك وتسـريعه في الاتجاه الإيجابي أو تعثره وربما تراجعه إلى الخلف أحياناً طبقـاً لنوع الخيارات السياسية والأيديولوجية والثقافية السائدة. د – رفض التمييز السلبي لا يعني إلغاء التميز أو الاختلاف الإيجابي كل ما سبق لا يعني قط القول بإمكانية إلغاء الفوارق العائلية أو الفردية المقبولة وغير المقبولة والحسنة أو القبيحة، والدعوة لنموذج مثالي أو خيالي مطلق للحسن أو القبح، بقدر ما يعني ويهدف إلى تصحيح وإلغاء مثل هذه الأوهام والخيالات السلالية والعنصرية الخاطئة في تقرير ما هو حسن وما هو قبيح، وما هو خطأ وما هو صحيح، في حياة الأسرة والمجتمع، والاستعاضة عن كل ذلك بما هو عقلي ومنطقي وعلمي وموضوعي في تقرير ما هو الحسن والقبح الحقيقي في حياة الفرد أو الأسرة أو المجتمع ككل، وما هو التميز المقبول بين شخص وآخر أو جماعة وأخرى، بالاستناد إلى المتغيرات الاجتماعية المكتسبة من البيئة والمجتمع بالنسبة لكل فرد أو أسرة أو جماعة كمتغيرات حقيقية وموضوعية، بدلاً من متغيرات الأوهام المهنية الخاطئة أو السلالية والعنصرية الأكثر خطأً ومعاداة لجوهر الدين وحقوق الإنسان. وبعبارة أوضح فإن التميز الاجتماعي الإيجابي بين فرد وآخر أو جماعة وأخرى هو التميز الذي يصنعه الأفراد لأنفسهم بأنفسهم من فعل أو سلوك حسن ومفيد لهم ولمجتمعهم في حياتهم لا أكثر، وغير القابلة للتوريث بأي حال، في مقابل التمييز الاجتماعي السلبي القائم على دعاوى الحقوق السياسية والاجتماعية بالاستناد إلى العوامل الوراثية والسلالية حسنة كانت أم سيئة.
– من أبرز علماء الاجتماع في اليمن والوطن العربي – جزء من محاضرة صيف العام 2019