كان إراسموس، الفيلسوف الهولندي وأحد رواد الحركة الإنسانية في أوروبا، ينصح قرّاءه في القرن السادس عشر، ألا يبصقوا على المائدة أو فوقها، وإنما تحتها. ثم تمّت قوْننة طريقة البصق، إلى أن اختفت هذه العادة تدريجيا، لا بل هذه الرغبة إذا صحّ التعبير، مع الإشارة إلى أن باصات النقل البريطانية بقيت، وحتى الستينيات، تحمل لوحاتٍ تحذيريةً كُتب عليها "ممنوع البصق".
وفي العصور الوسطى، كان جاريا أن يمخط الإنسان بأصابع يديه، وقد استمرّت هذه العادة طويلا، ما دفع بأحد كتّاب آداب السلوك أن يوصي قرّاءه بأن يعمدوا إلى تنظيف أنوفهم بواسطة المحارم فقط، وهو ما يتطلّب برأيه "شجاعةً وتحكّما بالنفس" مطلوبيْن للتمتّع بـ"مسلكٍ لائقٍ ومحتشم".
أجل، لم نولد على اللباقة التي نتمتّع بها الآن، بل إن مسيرة تاريخية طويلة من التوجيه والنصح والمنع، أنتجت حضارةً قائمةً بذاتها هي حضارة آداب السلوك. وقد كان أولّ من تطرّق إليها هو الألماني نوربرت إلياس، في مؤلّفه "حضارة الآداب المسلكية والانفعالات" (ألمانيا - 1939)، حيث ألقى نظرةً شاملةً على تاريخ آداب السلوك وتحوّلاتها في المجتمعات الأوروبية، (وهي عادات انتقلت من ثم إلى كامل المجتمعات البشرية)، من خلال تناول كل المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر.
ركّز نوربرت إلياس على الآداب المتعلّقة بالسلوك البشري الاعتيادي، كالأكل، الشرب، النوم، التغوّط، التمخّط، وعلى تنظيم الدوافع الجنسية والعدوانية. وبما أن هذه العادات والآداب تمتاز بطابعٍ كونيّ، يجعلها غير قابلة للتفادي، أيا كانت طبيعة المجتمع أو الحقبة الزمنية، فإنه يصبح من السهل جدّا مقارنتها تاريخيا وعالميا. ا
للافت في عمل إلياس هو، ولا ريب، وصفه التغييرات طويلة الأمد التي عرفتها هذه الآداب، وترافقها مع تحوّلات موازية في التركيب النفسي للأشخاص، وإبرازه الصلات الوثيقة بين تبدّل بنية الشخصية وبنية المجتمع. أما تفسيرُه هذه التغييرات فيأتي في إطار نظريته القائلة إن القوة الوحيدة المحرّكة للعملية التاريخية هي قوة العلاقات الاجتماعية. بمعنى آخر، تُطاول التغييراتُ الطريقةَ التي تربط الناس ببعضهم بعضا، وخصوصا في مجال التنافس على اكتساب مكانةٍ اجتماعية، وهو ما يستدعي تحوّلاتٍ في مصادر السلطة والهوية، وفي طريقة تعبير الناس عن الاحترام ومطالبتهم به، كما في الشكل الذي يتخذّه خوفُهم من خسارة احترام الآخرين لهم، واحترامهم هم ذواتهم.
هذا السعي الدائم إلى اكتساب مكانة اجتماعية، والخوف من فقدانها، يتسبّبان بالارتباك والنفور، وبنشوء ضغوطٍ أدّت إلى ربط موضوعة آداب السلوك بأكملها، بالطبقات الاجتماعية الدنيا "وغرائزها الدنيا". بمعنى آخر، تمّ قصر دراسة آداب السلوك على الطبقات التي كانت تفتقدها، كونها باتت تشكّل سلوكا بديهيا في الطبقات العليا. لذا، ليس غريبا أن تتم مناقشة "مشكلة" تصرّفات الطبقات الدنيا، ما بين العشرينيات والستينيات، أو الأطفال الذين ينبغي الإشراف على تربيتهم، أو طبقة الأغنياء الجدد الذين كانوا يُنتقدون، لشدّة ما يصدرون من ضوضاء. لقد منع الخوفُ من خسارة المنزلة الاجتماعية الوعيَ الضروري لدراسة تاريخ آداب السلوك، ومنع الناسَ من النظر إلى طريقة تصرّفهم على أنها ثمرةُ عوامل اجتماعية ونفسية.
بيد أن الترقّي الاجتماعي لبعض المجموعات التي تحرّرت، وتم دمجها في الدولة - الأمّة، على غرار النساء، الشبّان، المثليين، والسود، سمحت، في الستينيات والسبعينيات، ببلوغ درجة أكبر من التفكير المحايد الذي أتاح التطرّق لهذا المجال بسهولةٍ أكبر، وبانتزاع الاحترام والمعاملة اللائقة. وقد تقاطع ذلك مع انتشار موجات معارضة كبرى ضد كل أشكال السلطة، ومع مقاومة الاستعمار وتخلّص شعوب بأكملها من نيره.
أدّى هذا كله إلى الاهتمام بشكل أكبر بحياة الناس العاديين، وبطرح أسئلةٍ تتعلق بآداب السلوك، وبأسباب منع بعضها وتحليل بعضها الآخر.