أيكون فعلا الألمُ الجسديّ أو المعنويّ هو في أساس كل ما تمّ إنجازه ويُنجز من أشعار وروايات وأعمال فنّية مختلفة منذ وجد الإنسان؟ ألا يستطيع كاتبٌ أن يكون سعيدًا أبدًا، وأن يكتب تحفا فنّية وأعمالا مفرحة، تحكي عن جمال الحياة وتصالحنا مع ذواتنا؟ وأخيرًا، هل ينبغي لعملية الخلق أن تتصّل دائما بالأوجاع والعذابات؟ أسئلة "ساذجة" نعم، إذ ندرك جميعا الإجابات عنها، ذلك أن الثقافة والحضارات، ومنذ نشأتها الأولى، لا تحكي سوى قصص أوجاعنا وعذاباتنا وكيفية تعايشنا معها، ومع فكرة آنيّتنا وحتمية موتنا. منذ اختراع المأساة الإغريقية، ومنذ أسطورة سيزيف الذي خدع إلهَ الموت، فعاقبه الإله زوس بعذاب أبديّ لا ينتهي، ويقضي بحمل صخرة إلى أعلى الجبل، لتعود فتتدحرج، فينزل لرفعها من جديد؛ وأسطورة بروميثيوس الذي تمرّد على الإله زوس، فسرق النار (الفنّ) من جبل الأولمب ليمنحها للبشر، فأوثق إلى صخرة ليأتي عُقابٌ يلتهم كبدَه المتجدّد كل يوم، لكي يستمرّ عذابه بشكل أزليّ. لقد ألهمت أسطورة بروميثيوس الإغريقي الفنونَ على أنواعها لتصويرها العذاب اللامتناهي في تمثيلاته الجسدية والنفسية والاجتماعية والدينية، فالربطُ بين الأخلاقي والجمالي (أطيقا وأستاطيقا) في العصور القديمة والكلاسيكية كان أحدَ ركائز التعبير الأدبي والفني على السواء، إذ يجتمع قهرُ الإنسان مع عظمته ومقدرته على التحمّل والمواجهة، وصولا إلى خسارته حياته. وهو ما صنع أبطال التراجيديا من أمثال عوليس وأنتيغونا وإسخيلوس وكثر سواهم. في الفترات اللاحقة، افترق الألمُ عن الجمال وما عاد مرتبطا به، على ما يشير إليه الباحثُ الأميركي ديفيد ب. موريس في كتابه "ثقافة الألم" (1991) الذي أعيد طبعه عدة مرّات، وهو ما تعبر عنه المرحلة الفنية التعبيرية كما في لوحة "الصرخة"، لمونخ، حيث يتمثّل الألمُ في وجهٍ هلعٍ، غير آدميّ تقريبا، "شبيه بوجه ميت"، وقد تحوّل أيضا إلى وسيلة لاكتشاف الذات. في يومياته، يكتب كافكا: "لا أفهم دائما كيف يكون ممكنا لكل من أمكنهم الكتابة أن يعبّروا عن فكرة الألم بالألم، فالألم يمنّ عليّ بفائض من القوة في اللحظة نفسها. ظاهريا، إنه يستنفد قواي، وصولا إلى قلب كياني المثلوم. فما هو إذًا ذلك الفائض؟". على مثاله، يتساءل الكاتبُ النمساوي توماس برنهارد الذي تدور معظم أعماله حول ثيمة المرض والجنون والموت: "الألم ليس موجودا، إنه وهمٌ ضروري. الألمُ ليس ألمًا كما البقرة هي بقرة. إن كلمة ألم تشدّ انتباهَ شعورٍ إلى شعور آخر. هو حشوٌ زائد، بينما المخيّلة هي الواقع". من خلال تعبيراتٍ كهذه، تكرّرت لدى عدد كبير من الكتّاب، يتبدّى للقارئ كيف يرى هؤلاء إلى الألم بوصفه تجربةً ضروريةً للكتابة. بيد أن علاقة الكتّاب بالألم ليست دائما متخيّلة، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بآلامٍ جسديةٍ مبرحة جعلتهم يعانون الأمرّين، من أمثال كافكا، نيتشه، ريلكه، وهنري هاين، أو بمعاناة عصبية ونفسية عرفها على سبيل المثال لا الحصر كلّ من غوركي، همينغواي، هيسّه، فيتزجيرالد، إبسن، كونراد، تينيسي وليامس، تولستوي، زولا، وفيرجينيا وولف. في الألم، كتب محمود درويش الذي كان يعاني مرضا في القلب إن "كل كتابة إبداعية هي نَصرٌ صغير على المرض"، وقد كان كتابه "سيرة الغياب" من أجمل ما كتب في النثر؛ في حين خصّص الكاتب المصريّ الراحل جمال الغيطاني "الأزرق والأبيض" ليروي معاناته مع المرض منذ دخوله المستشفى، ثم العناية المركّزة، ووداعه الأماكن التي يحبّ، قبل سفره لإجراء عملية. أما سيّد البحراوي فقد روى تجربته مع السرطان في نص أسماه "مديح الألم"، وهو ما فعله الشاعر اللبناني عبده وازن في كتابه "قلب مفتوح"، عندما روى تجربته الخاصة بعد إجرائه عملية قلب مفتوح... علاقة الكتابة بالألم بابٌ واسع لا يمكن اختصاره في هذه العجالة، كأنما على الكاتب أن يدخل بيتَ النار لتُصقل أحاسيسُه وأفكارُه ونظرتُه إلى الحياة، فالألم مطبوعٌ في الذاكرة، كما يقول نيتشه، وهو ما "يغذّي إدراكَنا الخطأ".