منذ قرابة الست سنوات غادر رجالات الشرعيّة البلاد إلى المنفى. كان ذلك حينها مُبرَّراً بهيمنة الميليشيا الانقلابية على ربوع البلاد وحاجة الشرعية لقطعة من الأرض محررة تمضي منها لأداء مهامها إلى حين تحقيق التحرير الشامل، وعودة الشرعية، كامل الشرعية، لإدارة مهامها من داخل العاصمة صنعاء.
حسناً، كان هذا هو التصوّر المطروح. تحررت أجزاء من البلاد لكنّ الشرعية بقيت في المنفى، ومع استمرارية الزّمن على ذلك غدت عودة الشرعية إلى البلاد مدرجة في خانة الأحلام! طوال هذه السنوات انحصر تواجد رجال الشرعية في الأرض اليمنية في زيارات خاطفة ورمزية أشبه ما تكون بزيارات وفدٍ خارجيٍّ لبلدٍ تربطه مع هذا الوفد علاقات صداقةٍ لحدٍّ ما، والمخجل واللّامفهوم هو ما ظلّ يبدو من انسجام هؤلاء الرجال مع وضعهم الشاذ هذا. انسجموا مع هذه الوضعية وكأنّها هي ما ينبغي أن تكون!
"شرعيّة الفنادق"، ظلّت هذه الجملة تتردد طوال هذه السنوات، ترددها وسائل إعلام الميليشيا، وأيضاً يرددها المنضوون في معسكر الشرعية بلحظات الحنق، كاشفين بذلك مقدار الهزيمة النفسية التي توقعهم فيها هذه الحقيقة، حقيقة تواجد رجال الشرعية في المنافي بلا مسوّغ معتبَر، بما يشي وحسب بأقصى درجات الارتهان، الارتهان حدّ الرقّ، وكيف أنّ لذلك بالغ التأثير على الروح المعنوية للمنضوين في معسكر الشرعية من مقاتلين ومواطنين على حدّ سواء.
أحياناً يأتي تبرير ذلك بتردي الوضع الأمني في المناطق التي تحررت من الميليشيا، وهذا تبرير مضحك مبكٍ في الحقيقة. إنه تبرير يفصح أولاً عن فشل الشرعية في أوليّات مهامها في نطاق سيطرتها، كما أن فيه إشارة إلى أن قيادة الشرعية هذه لا ترى في نفسها أي إمكانية للتضحية، هكذا وكأنّهم جاؤوا في هذا الوقت العصيب لا لإعادة الوضع إلى صوابه ومن خلال الاستبسال في ذلك، وإنما لجعل قيمة النضال حصرية في تأمين حياتهم الشخصية وأوضاعهم المعيشية، ورجال بهذه النفسية يكون من الحمق التعويل عليهم لإنجاز نصر في معركة حاسمة كهذه.
أحياناً أخرى يأتي نوع من التسويغ على شاكلة: ليس مهمّاً أن يتواجد رجال الشرعية في الدّاخل، فالمهمّ وحسب أن ينجزوا مهامهم ولو من خارج البلاد! هكذا قفزاً على بديهيات المنطق، دونما اعتبارٍ لا للواقعية ولا للرمزية! ودون أن نخوض في تتبع آثار ذلك، أظن تكفي نظرة عابرة لما وصلنا إليه من تردٍّ على كافة الصُعُد لندرك أية نتيجة مأساوية أوصلتنا إليها هذه اللا مسؤولية من قيادة الشرعية، إن على مستوى الرئاسة أو الحكومة أو البرلمان.
وإنّه لمن العبث في الأساس المضيّ في إيضاح بديهية من نوع أهمية وجود الشرعية على أرضها وفي أوساط شعبها، ومضار تواجدها في المنفى إن على مستوى الأداء الواقعي أو على مستوى العزلة الشعورية التي تنشأ بين القيادة والشعب وبين الشعب والقيادة، تلك العزلة التي لم تنفك تتضخم وعلى حساب قناعة الناس بالقضية وثقتهم بالنّصر.
اليوم، وبالرّغم من كل الإشكالات، يأتي تشكيل الحكومة الجديدة كنقطة مفصلية من شأن ما سيتلوها أن يضع مؤشرات لإمكانات تحسين الأداء والعودة مرة أخرى لأخذ الأمور بمسؤولية وحصر المعركة في استعادة الجمهورية، وفي تقديري إنّ أوّل ما يمكننا من خلاله قياس ذلك هو من أين ستنطلق هذه الحكومة لأداء مهامها: هل من الدّاخل، أم من الخارج، من المنفى؟! الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال من شأنها الإفصاح عن كلّ شيء، كلّ شيء.