مؤخّراً نما في وسائل التواصل الاجتماعي، من قِبل كثير من الكتّاب، أو المهتمّين بالكتابة، نوعٌ من تبرّمٍ واضحٍ إزاء ما يعتقدونه الدّور الهدّام الّذي تؤدّيه هذه الوسائل في حقّ الكتابة عموماً والأدب على وجه الخصوص. هذا التخوّف وإن كان مفهوماً إلّا أنّه حقيقٌ ببعض التمحيص.
تتركّز مخاوف هؤلاء في كون وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها منصّات متاحة للجميع، أفرزت واقعاً "كتابيّاً" مختلّاً، واقعاً صعّد مجاميع عريضة من الأدعياء، مجاميع لا تنفكّ تتسّع وتتمدّد، تتقيّأ هذرماتها وتشوّهاتها وتقدّمها للجمهور باعتبارها أدباً سائغاً، وأنّ الجمهور لا يتورّع يتلقّف ما يأفكون باعتباره أدباً كذلك.
في واقعٍ كهذا، فإنّ الكاتب الموهوب، الخبير في فنّه، وهو يعكف أيّاماً في تجويد قصيدة ما، مقالة أو قصّة، ثمّ يأتي ينشرها في هذه المنصّات، وقد ضيّقت الحرب من إمكانيّة العثور على منصّات نشرٍ الأخرى، فلا يجد لتحفته هذه ما تستحقّ من اهتمامٍ وأصداءٍ، فيما يرى بالمقابل كميّة التهافت الّتي يتلقّى بها الجمهور كتابات أخرى ليست من الجودة في شيء، فإنّه يشعر بالغُبن، بالخطر.
"لقد مات الأدب"، يقول في نفسه: "لم يعد ثمّة مكان للكتابة الإبداعيّة. الغثائيّة سيّدة الموقف". ينطوي على نفسه مكتئباً، ويبدأ بتسويط الجمهور ومكاشفته برداءته، وقد يصل إلى مرحلة يتوقّف فيها عن الكتابة كليّاً وربّما نهائيّاً.
ردّ الفعل هذا يبدو مسوّغاً من نواحٍ عدّة، لكنّه ينطوي على سذاجة من نواحٍ أخرى، أو فلنقل ينطوي على قياسٍ خاطئٍ.
بدايةً، يتوجّب إدراك بدهيّة جوهريّة في هذا الشّأن: أنّ برامج التواصل الاجتماعي ليست في الأساس منصّات للكتابة الإبداعيّة. إنّها مخصّصة "للتواصل الاجتماعي" كما يشير اسمها، التواصل الاجتماعي باعتباره متاحاً للجميع من شتّى المستويات والاهتمامات. اتّجه إليها الأديب اضطراراً بسبب وجوده في بلدٍ تمزّقه الحرب كلّ يومٍ وتقوّض إمكاناته، بلدٍ يكاد يكون خالياً من دور النّشر ولا تكاد تجد فيه مجلّة أدبيّة واحدة، أي: يكاد يخلو كليّاً من أيّة إمكانيّة للنّشر. هذا على صعيد الوسيلة.
أيضاً نحن ضمن مجتمعٍ تفصح إحصاءات كثيرة_ حينما كان لا يزال ثمّة إحصاءات_ عن نسبة أميّة تتجاوز الـ 50%. هذه الإحصائيّة القاصمة يتعيّن أن لا تغيب عن ذهن الكاتب المبدع وهو يقيّم جدواه. إنّ نصف الشّعب لا يقرأ ولا يكتب. أمّا النّصف الآخر فيستطيع المرء أن يقول واثقاً إنّ ثلاثة أرباعه هم أشباه متعلّمين. ثمّ خذ الرّبع الرّابع هذا المتبقّي من النّصف المتعلّم وقسّمه إلى فئات وانظر كم سيتبقّى لديك ممّن بوسعك اعتبارهم جمهور الكتابة الإبداعيّة. وهذا على صعيد الجمهور.
في معطياتٍ كهذه، يجب الاعتراف بالحقيقة التّالية: أنّ الأدب في مجتمعنا ليس بوسعه إلّا أن يكون نخبويّاً أكثر من أيّ مجتمعٍ آخر. هذه الحقيقة يجب أن يتقبّلها الكاتب، أن يضعها في اعتباره وهو يحوك تحفته الإبداعيّة، وأن يتقبّل من ثمّ إذا لم تنَل تحفته هذه سوى القليل من الاهتمام، وأن يدرك في النّهاية_ وهذا ما نبّه إليه كتّاب عالميّون كبار، من أمثال يوسا_ أنّ الشيوع والشّهرة تظلّ خاضعة لحدٍّ بعيدٍ للصّدفة والحظّ. أي أنّك قد تظلّ تبدع طوال سني حياتك دون أن تُشاع، وحتّى قد لا يُكتَب لك الشيوع بعد موتك. هذا، للأسف، طبيعيٌّ جدّاً وواقعيٌّ.
على أنّني هنا لا أودّ تأكيد النّظرة القاتمة الّتي ينظر بها المتخوّفون من الدّور الهدّام الّذي تضطلع به وسائل التواصل الاجتماعيّ على الأدب. فكما أنّ لوجهة نظرهم هذه ما يسندها، فثمّة أيضاً تلك النّظرة المعاكسة الّتي ترى في هذه الوسائل منجاة للأدب وللإنتاج الإبداعي سيّما في مثل واقعنا، وذلك في أنّها تكاد تكون الحيّز الوحيد المتاح للنّشر، وأنّ ثمّة كتّاب مبدعون ما كانوا لينالوا أقلّ ظهورٍ لو لم تكن هذه الوسائل موجودة.
المسألة إذن، مثلها مثل كلّ شيء في الوجود، نسبيّة. تظلّ ثمّة ميزات مثلما ثمّة مخاوف وسلبيّات. إنّ الحياة ماضية في أن تزجّ إلى واقعنا بشتّى المتغيرات، بشتّى الأدوات، الّتي من شأنها دوماً تفرز واقعاً جديداً لا نستطيع سوى أن نتقّبله وأنّ نحاول تطويعه للصّالح العام قدر المستطاع.
في الجزئيّة الّتي نتحدّث عنها هنا، أودّ التنويه لمسألة هامّة أظنّها تفاقم من هذه المشكلة، وهي الغياب شبه التامّ لمؤسسة النّقد. وطالما والحديث هنا عن الكتابة الإبداعيّة في وسائل التواصل الاجتماعيّ فإنّ المرء يتساءل كيف بالإمكان إنشاء مؤسسة نقدية ما تضطلع بهذا الدّور. هي فكرة حالمة لا شكّ وقد تبدو من فرط لاواقعيّتها مضحكة، لكن لم يكن لي بدّ من إيرادها هنا في سياق المقال.
نقطة إضافيّة أود تسجيلها: أنّه في وسائل التواصل الاجتماعيّ ليس ثمّة مشكلة أيضاً في أن يجد الكاتب المبدع مثقّفين ومبدعين يتواجدون في الصّفحات الضّحلة بالمعيار الأدبيّ أكثر من تواجدهم في الصّفحات ذات الإنتاج الجيّد. في رواية السّقطة، لألبير كامو، يقول السّارد إنّه سيفضِّل لقاءً مع فاتنةٍ ما على حضور جلسة نقاش معيّنة مع إنشتاين، سيّما حين تكون ثمّة إمكانيّة لأن يحضر لدى إنشتاين بعد الانتهاء من الفاتنة!