كان لنجاح دعاة الدعوة الإسماعيلية في اليمن أثره البارز في تحفيز الهادي يحيى بن الحسين لتوسيع نفوذه، وقد دانت له بادئ الأمر صعدة وضواحيها، ليتوجه بعد شهرين من مقدمه صوب نجران ربيع آخر 284هـ / مايو 897م، دانت له تلك الجهة بادئ الأمر دون قتال، وجعل عليها أحمد بن محمد من بني عمومته. وما هي إلا أسابيع معدودة حتى تقطع شخص يدعىَ حُنيش الوادعي لبعض عماله العائدين منها، قتل أحدهم، ونهب ما بحوزتهم من مال، قُدرت بـ 1,000 دينار، خرج الهادي يحيى إلى حنيش بنفسه، وكان هذا خروجه الثاني إلى نجران، وحين امتنع الوادعي عن رد الأموال التي أخذها، أمر الهادي بهدم منزله، وقطع 400 من نخيله، وحقلين من أعنابه عقابًا له، وإرهابًا لأي شخص يُفكر بالتمرد عليه. ظل الهادي يحيى بعد ذلك مُتنقلًا ما بين حوث، وخيوان، وخمر، ومذاب، وصعدة، يُصالح هؤلاء، ويحارب هؤلاء بهؤلاء، ولم يستقر خلال العام 286هـ على حال، توجه خلال ذات العام إلى نجران مَرتين، مرة في مُنتصفه، وأخرى في آخره، وأخمد فيها تمردين، الأول قام به الياميون، والثاني – وهو الأكبر – قام به بنو الحارث بقيادة عبدالله بن بسطام، والحارث بن حميد الخثيمي، وعاضدتهم في معاركهم الأخيرة بنو ربيعة، وبنو شاكر من همدان. كانت للهادي يحيى معهم أكثر من موقعة، وشهدت قرى ميناس، وسوحان، والهجر، ورِجلاء، وحصن ثلا فصولها الدامية، وقتلوا من عساكره – كما أفاد كاتب سيرته – عددًا غير قليل، وسقط به فرسه في إحدى المعارك، وقتل منهم في كل المعارك خلق كثير، وذكر ذات المُؤرخ أنَّه ضرب أحدهم بالسيف، فأخرجه من بين رجليه، فقال الحارث: «استروه، فإن رأى الناس هذه الضربة لم يقاتل هذا الرجل أحد». وحسب الرواة فقد خاطبهم الهادي يحيى في إحدى معاركه مُهددًا: يا بني حــارث بـن كعب هـلموا قبــل رقص النسا ورب المـصلى قد سمعتم قـول المهلهل في الشعر يُنـادي هناك بكــــرًا وذهـلا ذهب الصلح أو تـردوا كليـبًا أو تحلوا على الحكـومة حـلا لســـت مــن هـاشم ذؤابـة مجدٍ إن لم أروِّ السيــوف حــتـى تملا كما أمر بجمع جثث القتلى، وتعليقها مُنكسة فوق جذوع الشجر حتى تعفنت، وانتشر نتنها، فما كان من الأهالي – كما زعم كاتب سيرته – إلا أنْ قَدِموا عليه، قبلوا رأسه، ورجليه، ويديه، فأذن لهم بعد طول استجداء في دفنها، كما قام بهدم حصونهم، وقطع نخيلهم وأعنابهم، وغنم منهم غنائم كثيرة. خضعت نجران بعد مُقاومة عنيفة، وبعد أنْ جرعوا الإماميين الأمرين، واستسلم الحارث بن حميد، ثم عبدالله بن بسطام، وجعل الهادي يحيى عليها زوج ابنته محمد بن عبيدالله العباسي، والأخير والد كاتب سيرته من زوجة ثانية، وأحد بني عمومته الذين لحقوا به، وواليه السابق على وشحة، وخليفته على صعدة أثناء خروجه الأخير، ولم ينقض من الوقت الكثير حتى قام النجرانيون بتمردهم الكبير الآتي ذكره. وعن خروجه الرابع إلى نجران قال الهادي قصائد كثيرة، نقتطف من إحداها: وسـرت إلى نجران في كـل طـالب بــثـأر كـتـاب الله أروع غـاضب فقل لابن بسطام وأعــور حارث مكـانكما إن كنتـما في الكتـائب استغل بنو الحارث في نجران توجه الهادي يحيى صوب صنعاء، وثاروا على عامله محمد بن عبيدالله العباسي، ليتوجه فور عودته إلى صعدة نحوهم جمادي الآخر 289هـ / مايو 902م، وذلك بعد أنْ استخلف على الأخيرة ولده محمد، وكان هذا خروجه الخامس إلى تلك الجهة، استأمنوه، فأمنهم، ثم خرج إليهم مرة سادسة؛ والسبب خلافهم مع الياميين، وقد أصلح بينهم والأخيرين. ظلت نجران وضواحيها همّ الهادي يحيى الشاغل، وهي إنْ دانت له بادئ الأمر دون قتال، إلا أنَّها لم تستقر طيلة فترة حكمه على حال، تسللت إليها معالم الدعوة الإسماعيلية على يد حسين بن حسين الحاشدي، وتلقفها أبناء قبيلتي بني الحارث ويام، ثاروا على عامله محمد بن عبيدالله العباسي، فاستنجد به ابن الأخير، وكاتب سيرته قائلًا: ظهر الفسـاد بأرضنا وبلادنا قـامت بذلك قــرامــط أشرار كفروا بـرب الناس يا بن محمد والكــفر شيمتــهم فهـــــم كفار فانهض نُصرت عليهم فأبِـدهمُ إنَّ القرامـط عاضـدتـهـا حار توجه الغازي الرسي إلى نجران للمرة الثامنة 20 رجب 294هـ / 5 مايو 907هـ، ومعه – كما أفاد كاتب سيرته – عبدالله بن الخطاب الحكمي، وكان الأخير قد وفد من تهامة إليه، ومعه حشد من العساكر؛ وذلك بعد أن اختلف مع ابن عمه الغطريف بن محمد الأشج حاكم المخلاف السليماني. وهذان الاثنان سبق أن بايعا قبل عامين ونصف العام الهادي يحيى، وطلبا نجدته أثناء حروبهم مع بني زياد، أنجدهم حينها، وخرج إليهم بـ 900 مقاتل جلهم من بني الحارث، وخولان الشام، ثم ما لبثوا أن اختلفوا، ودارت بينهم حروب وخطوب لم يوضح المُؤرخ العباسي نتائجها، ويبدو أنْ تمددات علي بن الفضل المُتسارعة جعلتهم يتحدون من جديد. وصل الهادي يحيى إلى نجران، ودمر، وأحرق، وأودع في السجن 20 رجلًا من دعاة الدعوة الإسماعيلية، ليحاول العباسيون بالتزامن مع عودته إلى صعدة السيطرة على تلك الجهة مرة أخرى رمضان 294هـ / يونيو 907م، وقيل إنَّهم تلقوا رسائل استغاثة من سكانها، أرسلوا بحميد الحماسي لذات المهمة، وقد اشترط الأخير عليهم قتل عاملهم محمد العباسي، فما كان من ابن الأخير إلا أنْ راسل الهادي يحيى للمرة الثانية مُستنجدًا: نجـران نجـران فعـجــل هلـكَـها مــاذا حــوت فيــها من الأنجاس عجّـل بقتلتـك التــي أوعـدتهم في فيلـق عـدد الحصا رجاس يا بن الحسين أبد عـدوك واسترح لتـريحــنا ممـا نـزال نقـــــاسي فانهض نصرت على العدا لتبيدها وتحلـها جـــذبـــــا بسيــف البـاس وما يجدر ذكره أنَّ بني الحارث كانوا قد تمردوا بقيادة الحارث بن حميد على عاملهم محمد العباسي من قبل جمادي الأولى 291هـ / إبريل 904م، بمُعاضدة من الياميين، فيما وقف عبدالله بن بسطام مع الأخير، ودافع عنه باستماته، وكذلك فعل الوادعيون. لم يخرج الهادي يحيى بن الحسين حينها إلى تلك الجهة إلا بعد أن أرسل إليهم رسالة تهديد طويلة ضمنها كثيراً من أشعاره، وقال فيها مُبالغًا: «واليمن كلها إلا أقلها لنا طاعة، وعدد وأعوان، تنقل إلينا أموالها، وتجمع بخدمتنا ونصرتنا رجالها وفرسانها، وذلك بمن الله وفضله وإحسانه». بعد مرور شهرين خرج الهادي يحيى إلى نجران، وكان ذلك خروجه السابع، وبقي فيها لأكثر من أربعة أشهر، التقاه عامله العباسي بمن معه، وعفا عن الأحلاف، والياميين، وانضم إليه بنو شاكر، وتوجه بهم جمعيًا إلى سوحان، أخربها، ثم توجه إلى قرية الهجر، وهناك دارت معركة بينه وبين بني الحارث، وفيها انتصر. أمر الغازي يحيى بعد ذلك عساكره بقطع نخيلهم، وتدمير حصونهم، وهدم ونهب أسواقهم، وهكذا وبعد مناوشات محدودة راسلوا ابن بسطام أنْ يطلب لهم الأمان، ففعل، وما هي إلا أسابيع معدودة حتى عاود ابن حميد تمرده، ثم كان فرار الأخير إلى البادية، مُكثفًا استعدادته لجولة حاسمة. توجه يحيى إلى نجران للمرة التاسعة شوال 295هـ / يوليو 908م، وفي ذلك قال كاتب سيرته: «طردت بنو الحارث في رؤوس الجبال، وأخلوا المنازل والأموال.. وجعل ابن بسطام يستأمن لبني الحارث قبيلة قبيلة، وضربهم الله بالذلة»، ولما رأى الياميون رضا يحيى الرسي عن عبدالله بن بسطام؛ عملوا على اغتيال الأخير، وقد نجحوا – قبل أنْ ينتهي العام – في ذلك، وقيل أنَّهم قتلوه انتقامـًا لقتله ستة من رجالهم. عاد الغازي يحيى إلى صعدة، وعاد بعودته تمرد قبائل نجران، وكان التمرد الأكبر تمرد بنو الحارث بقيادة الحارث بن حميد الخثيمي السابق ذكره، توجه أنصار الأخير لدار عامل الإمام محمد بن عبيدالله، حاصروه، ثم قتلوه، واحتزَّ أحدهم ويدعى أبو العوارم بن موسى القطني رأسه. أيام الهادي يحيى الأخيرة كانت الأشد قسوة عليه وعلى أنصاره، وقد كانت آخر حروبه بوادي نجران، وانحسرت بفعلها دولته إلى مدينة صعدة وضواحيها، ليتوفى مُتحسرًا مُتأثرًا بجراحه 20 ذي الحجة 298هـ / 18 أغسطس 911م، وقيل أنَّه مات مسمومًا، ودُفن في مسجده الشهير وهو بعد غير مكتمل البُنيان، ونُحت على ضريحه: إذا شاهدت نور ضريح يحيى ملكت الخافقين بلا علامة ويحيـى وسلتي في كـل أمر يلم بنا إلى يـوم القيـامة – من كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن)