ليست المفاجأة في أنهم يفعلون كل شيء لإهالة التراب على ثورة يناير، نقطة الضوء الباهرة وسط نصف قرن من العتمة والبلادة، بل المفاجأة الحقيقية أن أعداءها أكثر تصديقًا لها من أبنائها والمنتسبين إليها.
لو ألقيتَ نظرةً من بعيد على المشهد المصري في هذه الأيام التي تسبق ذكرى الخامس والعشرين من يناير، ستجد مجتمعًا يتم رجّه رجًا عنيفًا في حاوية من الشائعات والتسريبات والقرارات الصادمة، والإجراءات الأكثر جنونًا.
التفسير الأسهل لما يدور من معارك فارغة ومنحطّة، يتم فرضها بالقوة على المجتمع، أنها تندرج ضمن برنامج للإلهاء وصرف الانتباه عن كوارث يتم تنفيذها، ليس آخرها عملية نحر شركة الحديد والصلب، بما تحمله من قيمة وطنية وتاريخية، قبل الأهمية الاقتصادية والصناعية، ولا تمرير قراراتٍ تنتمي إلى سلوك عصابات السطو المسلح، من نوعية الاستيلاء على مساكن عائلة الرئيس الشهيد محمد مرسي وأمواله وممتلكاته، وعشرات من المعارضين للانقلاب العسكري، من بينهم المستشار الجليل محمود الخضيري، النائب السابق لرئيس محكمة النقض، ورئيس نادي القضاة بالإسكندرية الذي نكلت به سلطات الانقلاب أكثر من خمس سنوات في السجن، وهو في العقد الثامن من عمره.
ليس عبد الفتاح السيسي في حاجة إلى إلهاء الناس عن شيء، لأنه لا يعترف بوجود الناس أصلًا، ويكاد يكون واثقًا من أنه بعد ما فعله في الجماهير على مدار ثماني سنوات، لن تقوم لها قائمة، بالنظر إلى عنف الضربات وشراسة التدمير المنهجي الذي استهدف قدرتها على الحركة.
يمارس النظام بعض ألعابٍ قذرة، مثل إغراق المجتمع في أتون الفضايح، على شاكلة ما تسمّى "موقعة التورتة" في نادي الجزيرة، نادي الطبقة المخملية العريقة التي تأنف من بقية طبقات المجتمع، وتكاد تكون منفصلةً عنه، ومثل فرض مسخرة "زواج التجربة" على موائد الفتوى والنقاش، والاتفاق والاختلاف، وتوريط مرجعياتٍ دينيةٍ في الاشتباك حولها.
هذا كله ليس على سبيل الإلهاء، وإنما من أجل استدراج الناس إلى التطبيع مع غير المألوف وغير الطبيعي، وغير الأخلاقي أيضًا، عن طريق طرح المحسوم والمقطوع به، دينًا وعرفًا وتقليدًا، موضوعًا للجدل، حتى يتحوّل بالتدريج إلى أمر واقع يتعايش معه الناس، قبولًا أو رفضًا، لكنه في النهاية موجود.
الأسوأ من ذلك والأخطر أن يتم إقحام مثل هذه الألعاب المبتذلة، على قضية الحرية، بجانبيها، الفردي والعام، ويدور الاشتباك حول أشياء مقزّزة ومقرفة ومفرطة في الانحراف، باعتبارها عناوين للحرية والتطور الاجتماعي والثقافي، ليصل السفه ببعضهم إلى اعتبار إبداء الامتعاض من هذه الملوثات نوعًا من الرجعية والانغلاق .. بل ويتخذها بعض التافهين مناسبة لنضال فارغ في قضية ساقطة من الأساس.
هنا، وعلى هذه الأرضية الملوّثة، يتم استدعاء الفضيلة الرذيلة، ووضعهما في قوالب أكثر إسفافًا من قوالب صناعة الحلوى المقزّزة، ليتم تسييل المفاهيم، فيصبح مرتكبو أرذل الرذائل المدافعين عن الفضيلة، حين يتم اختزال معناها في إجراءاتٍ مسبقة التجهيز، مثل القبض على صانعة الحلوى والتحقيق مع سيدات الحفلة، واستدعاء دار الإفتاء لتفتي فيما لا يحتاج فتوى .. وأن يصبح اللهو الذي تمارسه مجموعة من الفارغات، إشباعًا لمزاج منحرف، الرذيلة الكبرى والجريمة الكبرى التي تغطّي على الجرائم الحقيقية التي تمارسها السلطة بحق المجتمع، مثل القتل والقمع والتعذيب وانتهاك الفتيات والسيدات في السجون وتقطيع أوصال الوطن والاستيلاء على أموال الناس ظلمًا وتجبرًا. على بعد خطواتٍ من ساحة النضال الزائف، كانت ثمّة قضايا حقيقية قابلها المناضلون المزيفون بالخرس وادّعاء الصمم والعمى. وكما قلت حين سئلت عن رأيي في مسخرة حلوى سيدات نادي الجزيرة، إن ما نحن بصدده يمكن أن تسميه "نضال التورتة أو تورتة النضال"، لتدمير مفهوم النضال الحقيقي وابتذاله، بتوافه القضايا، بينما عمال الحديد والصلب المهدّدون بالتشريد.. وساكنو زنازين الجبابرة،.. والذين تسطو السلطة على منازلهم وتصادر ممتلكاتهم .. هؤلاء وغيرهم يستحقون وقتًا مستقطعًا من النضال الشرس، دفاعًا عن حرية المزاج المنحرف لساكنات القصور بطلات "موقعة الحلوى"، حيث يمكنك أن تكون تقدّميًا وتحرريًا من دون تفاهة ونطاعة.
الشاهد أننا بصدد عملية "تتفيه للمجتمع"، أي جعله أكثر تفاهةً وابتذالًا، عن طريق معارك تدور في المستنقعات العطنة، ويتحمّس لخوضها وترويجها من كان يُفترض فيهم أنهم ضمير الأمة، فتبين أنهم أتفه مما تخيلناهم.