من المستحيل أن تجد أسوأ من دونالد ترامب في التاريخ، ولا جدال في أن اختفاءه من فوق مسرح السياسة العالمية شيء إيجابي ويثلج الصدر، ويمنح العالم فرصة للتنفس. هذا كلام ثابت ومقطوع به، ومكرّر إلى درجة الملل، لكنه لا يصلح لأن يكون مسوّغًا لتجاوز البهجة برحيل ترامب إلى التسليم بأن بديله بايدن جاء وبيده مفاتيح السعادة للمواطن العربي، أو تصويره أنه طوق النجاة الذي أرسله الله إلى العرب.
في كرنفالات الاحتفال بسقوط ترامب وصعود بايدن، ثمّة حالة مخجلة من الهرولة صوب البيت الأبيض، طلبًا للحلول لكل المعضلات العربية، وفي مقدمتها الأزمة المصرية المتفاقمة، إلى الحد الذي يبدو بعضهم وقد استبدّ به الحماس إلى درجة أنه يتناسى أشياء مثل الكرامة الوطنية والاستقلال الوطني، فيسلك وكأن مصر تحت الانتداب الأميركي.
من حيث المبدأ، لا خلاف على أن النظام الحاكم في مصر هو الأسوأ والأكثر قمعًا وتوحشًا في الداخل، والأكثر إهانةً لقيمة مصر ووزنها في الخارج، ولا خلاف أيضًا في أن ذهابه حاجة إنسانية ووطنية، يتمنّاها كثيرون .. هذا كله مفروغ منه، بوصفه غايةً نبيلةً تستحق العمل من أجلها. غير أن هذه الغاية النبيلة يتم ابتذالها وإهانتها حين يندفع بعض الأشخاص لاستخدام وسائل لا تقل ابتذالًا ورخصًا في سبيل تحقيقها، كأن يقف أحدٌ على أبواب البيت الأبيض، باعتباره الباب العالي الذي خلفه كل الحلول لكل المشكلات .. أو أن يندفع بعضهم إلى الخلط بين مصر والسلطة التي تحكم مصر.
من ذلك، هذه المبالغة في التعبير عن السعادة بتكوين تكتلاتٍ من نواب أميركيين للضغط على النظام المصري، والتهليل لكل ما يصدر عن واشنطن، من دون وضعه في سياقه العام، أو غض البصر عن الإشارات القوية الصادرة عن الإدارة الجديدة أنها أكثر انحيازًا للكيان الصهيوني، وأشدّ حرصًا على جعل التطبيع أولوية قصوى، ليتعدّى مرحلة تطبيع الأنظمة إلى التطبيع الشعبي، وبلا أي مقابل، لكن مع التلويح ببعض الانفراج في ملفات الحريات وحقوق الإنسان.
في غمرة التصفيق الحاد للرئيس جو بايدن، لا يتوقّف أحدٌ عند أمور شديدة الخطورة، يجسّدها وزير خارجية أميركا الجديد، أنتوني بلينكن، الذي يبدو في تبنّي دعم الكيان الصهيوني، متفوقًا على دونالد ترامب شخصيًا، إذ كان الأخير يفعلها من منطلقات براغماتية وتجارية، قبل أن تكون تعبيرًا عن عقيدة وانتماء فكري، فيما وزير الخارجية الجديد يفاخر بأنه من "رجال أمن إسرائيل"، وبنص تعبيره في تغريدة له قبل خمس سنوات، حين كان ضمن موظفي إدارة أوباما "إذا نظرنا إلى السنوات الثماني الماضية، أشعر بالفخر لخدمة رئيس (باراك أوباما) قدّمت إدارته لأمن إسرائيل أكثر من أي وقت مضى".
بالتزامن مع وضع كل القضايا بيد جو بايدن وإدارته، تعلن هذه الإدارة أنها سوف تعمل، فيما يخص الشرق الأوسط، تحت مظلة ما تسمى "اتفاقات أبراهام"، تلك التي جرى تدشينها مع التطبيع الصهيوني الإماراتي البحريني، وما تلاها من تبشيرٍ بديانةٍ جديدة للمنطقة "الدين الإبراهيمي"، وتظهر انعكاساته الاستراتيجية في التمهيد لمعادلة جديدة في سيناء، تقوم على إدخال أبوظبي مراقبًا عسكريًا على مصر في سيناء، استجابة لرغبة صهيونية أميركية. ينشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط دراسة للعميد الإسرائيلي المتقاعد والمحلل الاستراتيجي، أياف أوريون، في الأسبوع الماضي، يحدّد فيها أولويات واشنطن وتل أبيب في سيناء خلال المرحلة المقبلة، عن طريق إقحام قوات خليجية تتولى مهام المراقبة، وهو ما من شأنه أن يساعد على تحسين الأمن، وتقليل العبء والمخاطر الأميركية، وتقليل التكاليف، بالنظر إلى إمكانية إنهاء دور القوات الأميركية في القوات متعدّدة الجنسيات التي تراقب الوضع في سيناء.
الشاهد أن ضغوطًا سوف تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة لتمرير هذا الأمر، وفرض واقع استراتيجي جديد في سيناء، هو بالضرورة مهينٌ للكرامة الوطنية، في ظل هذه الطفولة السياسية التي يمارسها النظام وقطاعاتٌ من المعارضة في الخارج، تتخذ أشكالًا متعدّدة، أقبحها الوقوف بين يدي بايدن، والوقوف على أبواب البيت الأبيض، طلبًا للرضا أو المساعدة. المدهش أنه تمت تجربة هذا السلوك على مدار سنوات مضت، من دون أية نتائج أو مكاسب، اللهم إلا الهروب من الواقع إلى مضغ الأوهام، ومنها ما سبق وتكلمت عنه في نهاية العام 2016، ومجيئ ترامب بشأن البحث عن البديل المستورد من الخارج، وكأننا بصدد إذعان كامل من جمهور السلطة والمعارضة، معا، لقدر البدائل المتدحرجة من إرادات الخارج. وهي واحدة من أشد اللحظات بؤسا في التاريخ المصري، حين تسود سيكولوجية التعلّق بالخارج، استطلاعا لهلال البديل القادم، أو الاستسلام لمنطق الصراع بين مراكز القوة الفاعلة في الداخل. وفي الحالتين لا حضور يذكر، أو يحسب حسابه للشعب، ولثورته الوحيدة.
بشكل واضح، لا أحد عاقلًا يمكن أن يكون ضد إزاحة هذا النظام، لكن أن يكون ذلك باستجداء الخارج، أو تسوّل الضغوط الدولية، المشروطة بالطبع، فهذا مهينٌ ومقرف، ولا يعبر بأي حال عن موقف وطني أو مبدأ ثوري .. فضلًا عن أن الواقع يقول إن الفرق بين بايدن وترامب لا يزيد كثيرًا عن الفرق بين رابين وبيريز.