الأزمات التي تعصف بالمنطقة واليمن من ضمنها تُعزى غالباً لخلل في بنية العقل الثقافية والمعرفية، فالحروب المتفجرة في كل البلاد العربية، وعلى رأسها حروب العقل، تعصف بالأمة بهدف تركيعها وإخضاعها لتمرير مشاريع اعدائها، وحروب العقل هي نوع متقدم من الحروب التي لا تكلف العدو شيئا ضمن ما بات يعرف اليوم بحروب الكلفة صفر، فهي تستهدف الخصم عَبر وسائل الاعلام الجديدة، ومنصات التواصل الاجتماعي، مستهدفة إعادة صياغة أفكارنا، ومعتقداتنا وقَوْلَبَتنا بتحويلنا لأسلحة حرب وقتال ودمار وكراهية، نُهلك شعوبنا وأوطاننا، أو عبر الهجوم السيبراني لتدمير شبكات الدولة المستهدفة. ولذلك فاليمنيون يواجهون حرباً أشرس وأخطر من الحرب العسكرية، التي يواجههم بها الانقلابيون وحلفائهم، ضد شرعية الدولة ومشروعها الاتحادي، هذه الحرب هي حرب العقل من خلال البرمجة الاجتماعية والعقلية، وتهدف السيطرة على العقل، ومراقبته وتوجيهه، للكراهية والتدمير، بافتعال الحروب، وتبني مشاريع تمزيق اليمن، بشعبه وأرضه، لتسهيل الهيمنة على اليمن، كدولة ووطن وشعب وأرض، وهذا كله يتم بأيدي يمنيين، تحكّموا بعقولهم، ويوجهونهم لتأدية هذا الدور، ضد وطنهم، وساعد على ذلك عوامل منها، الجهل والقابلية، وثقافة الفيد، والغوغائية، وتغييب العقل والتفكير ، وما تمارسه المليشيا الحوثية الإرهابية، من تغيير للدين والمناهج التعليمية، والثقافية والرسالة الإعلامية، هو امتداد لحروب العقل ضد اليمن واليمنيين. ومعروف بأن حروب السيطرة على العقول، تتم بطرق غادرة وخبيثة، ومتسترة بمكر تزول منه الجبال، فتجعل الضحايا يتوهمون، أنهم يمتلكون إراداتهم وعقولهم، وأن لهم القول الفصل بقراراتهم، والحقيقة أنهم ينفذون قرارات وإرادات اعدائهم.
وركيزة حروب العقل، تقوم على جعل الإنسان اليمني يعيش حالة دائمة، من الشك والارتباك، وعدم اليقين والثقة، وتغييب كامل للرؤية الواضحة، لأن الرؤية الواضحة، تعني اليقين، الذي يعني النصر ويستوجبه. ومثالها ما يحدث من حملات محمومة، بعناوين عدة، تهدف تشويه الشرعية ومشروعها الاتحادي، كونهما أساس نهضة اليمن واستقراره ونجاته، والعاصم الوحيد لمنع اليمن من السقوط في مشاريع الهيمنة والتقسيم . وحدها منظومة "الوعي السياسي والديني والثقافي، والمعرفي والاعلامي، والولاء الوطني" تعمل كأدوات صد ومنع لحروب العقل، وهي غائبة أو مغيبة عند الكثير من النخب اليمنية، ولذا تدفع اليمن ثمناً باهضاً لغياب بعض أو كل هذه المنظومة، مما يجعل الكثيرين ضمن عقلية القطيع، المنساقة بحروب العقل، والمستسلمة لها، وعِبر التاريخ تؤكد بأن عقلية القطيع، تؤدي دوماً لنكبة الإنسانية، وهنا كان التركيز القرآني بجعل المسؤولية فردية للإنسان، وجعلها مرتكزة على العقل والعمل به، في التدبر والتفكر والتعقل، وعدم أخذ الأمور كمسلمات دون تفكير وتمحيص، حتى الإيمان بالله يتطلب يقين التفكر والعقل، ولذا أورد الله طلب ابراهيم عليه الصلاة والسلام من الله أن يريه كيف يحي الموتى، وطلب موسى عليه الصلاة والسلام من الله أن يراه جهرة، وسجل الله ذلك في كتابه عبرة للإنسان، ليبين له أهمية دور العقل في تحديد مصيره، في كل أمور حياته وعيشه ومعاشه بدنياه وأخرته وهو مناط الاستخلاف والعبادية والتمكين في الدنيا ومناط الحساب في الآخرة.
لذلك فحروب العقل، هي نوع جديد من صناعة العبودية والرِّق بشكلها المعاصر، وتعتمد على مفهوم وفهم مغلوطين للحرية، عن طريق اقناع المتلقي، بأن ما يعتقده جوهر حريته، هو بالأساس عبوديته ورقه، المختلفة عن عبودية ورق الماضي القائمة على الإكراه والقوة والغلبة. وهذا يفسر لنا سقوط معظم الشعارات والمشاريع، التي رُفعت بمختلف توجهاتها القومية واليسارية والاسلامية، وبجانب اسقاط وهم الحرية والتحرر، وبعملية ملازمة، يتم خلق منظومة الإحباط واليأس والقنوط، لدى جموع الناس، لدفعهم للقبول بالحلول المفروضة عليهم، والمعدة سلفاً، والتي تخدم اعداء الوطن، وها هي الأمة العربية بأبنائها وأموالها وجيوشها وسلاحها وشعوبها، تُقاد لحروب الإبادة وللخضوع والكراهية، دون أن يخسر العدو طلقة واحدة، ولا دولار واحد.
فحروب العقل هي أبشع حروب التكلفة الصفرية، كونها تستهدف ذات الإنسان وعقله، وتحوله لمسخ بشري يعيش ضمن قطيع حيواني فاقداً دوره الإنساني، من هنا كانت الإشارة الرحمانية بأن من يُضّيع وظيفة عقله وحواسه أضل من الأنعام.
فهل بالإمكان أن يُستعاد العقل اليمني من الاختطاف، وأن تمتلك نخبته السياسية والثقافية، إرادة تفعيل وفعل العقل، لتدرك بأن شرعيتها ومشروعها، وحدهما طريق خلاصها وحريتها وكرامتها، وخلاص وحرية وكرامة اليمن، الدولة والوطن والأرض والشعب، وكل المشاريع والشرعيات الأخرى بمختلف مسمياتها، ما هي إلا أغلال عبوديتهم واستعبادهم، كمقدمة لاستعباد اليمن وشعبه، كونها ضمن مشاريع حروب العقل، التي تهدف للهيمنة والعبودية بشكلها الجديد.
د عبده سعيد المغلس
٤ فبراير ٢٠٢١