بعد فشل الحوثيين في استثمار الفرصة التي مُنحت لهم من أجل اقتحام مأرب والظفر بثروات المحافظة، تحرك المجتمع الدولي بجدية ورمى إليهم طوق النجاة لـ"انتشالهم"، بعد أن أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من خسارة المعركة الحقيقية على تخوم "مأرب"، على الرغم من الحشد الكبير والتجهيزات الضّخمة.. ما كان سيمثل ضربة قوية لمناصريهم، الذين رفضوا شكلياً القبول بالمبادرة الجديدة التي أعلنتها الرياض بعد تحرّكات دبلوماسية أمريكية، ولم يعلنوا رفضهم إلا لكي يثبتوا لأنصارهم قدرتهم على المساومة، كأسلوب للحفاظ على ماء الوجه..
إن استمرار المواجهات في مأرب حتى اللحظة دليل على أن المبادرة تندرج ضمن المناورات السياسية، ليس إلا، وتعكس عدم جدية التحالف والشرعية في حسم المعركة عسكرياً في القريب العاجل.. وبالتالي تحويل جماعة الحوثي إلى "بعبع" وإلى رقمٍ صعب في المعادلة اليمنية على الرغم من افتقارها إلى الحاضنة الشعبية التي تحتاجها أي جماعة أو تنظيم، ديني أو غير ديني، و دليل آخر على أن وجود الجماعة إعلاميّ اكثر منه سياسي أو عسكري. ومما لا شكّ فيه أن اتفاق الرياض السابق لهذا قوّض الشرعية نسبياً وشرعن المليشيات نوعاً ما. فهل تتحرك المملكة بجدية أكبر في الاتجاه الذي يحفظ لها أمنها و استقرارها ودورها الريادي في المنطقة هذه المرة؟
إذا كانت المبادرة الأخيرة قد تمت بعد جهود دولية فإنها تصبّ في صالح إيران وأذرعها في المنطقة وتقود إلى الاعتراف بالحوثيين كقوة ضاربة تهدّد أمن اليمن ودول الجوار، وأكثر المتضررين المملكة العربية السعودية، بجانب اليمن، الذي مسّه الكثير من الضرر. وهذا يحتم على الأطراف الدولية حسم الصراع والانتصار للشرعية، التي عمدت بعض مراكز القوى إلى تدويل الحرب اليمنية لاستعادتها، ثم تركتها في مفترق الطرق، بعد سقوط العاصمة صنعاء في يد إيران سنة 2014م.
لقد أعقب جميع المبادرات السابقة قتلٌ بالجملة، ما يثبت أن الهدف منها إعطاء الجماعة فرصة لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب صفوفها واستغلال الفرصة التي تمنحها لها بعض مراكز القوى من أجل محاولة اختراق الصفوف بطرق أخرى غير المواجهة المباشرة. فقد كان يتمّ إعلان المبادرات عقب تحقيق الجيش الوطني انتصاراتٍ حقيقيةً وتقدّماً على الأرض، ولنا في ما حصل من قبل في الحديدة العبرة والعظة، عندما تدخّل المبعوث الأممي قبل سقوط المدينة بلحظات ودعا إلى عقد "مشاورات ستوكهولم"، التي لم تكن سوى فخٍّ نُصب للشرعية وتمخّض عنه تقويض اكثر لها وشرعنة للمليشيات وإدخال لاعب جديد إلى الساحة، تَمثل في المجلس الانتقالي، لإظهار الصّراع على أنه جنوبي -جنوبي، وليس صراعاً من أجل استعادة الشرعية المسلوبة.
فأية مبادرات مع جماعة رصيدها السّياسي صفر؟.. لأنها قادمة من خارج أسوار السّياسة ولا تحظى بإجماع وطني يؤهّلها لخوض أي معترك سياسي؛ ولهذا تستند إلى الحروب لضمان الاستمرار والبقاء، ولا تقبل بأية مبادرة تدمجها بكل فئات المجتمع وتجرّها إلى العمل الحزبي والتنظيمي، لأنّ أية مشاركة سياسة ستفقدها المكانة الرّفيعة التي تظن أنها حكرٌ عليها، وأن على الدولة أن تسخّر كل إمكاناتها ومقوّماتها للدفاع عن تلك المكانة، دون أن يشاركها المواطن البسيط في الحكم، الذي ترى أنه هبة من الله ولا علاقة له بالعملية الانتخابية.
إن ما يجري في اليمن حالياً يُثبت أن الدور الإيراني قد تحوّل الى دور "أمميّ" أكثر منه إقليمي وأن المجتمع الدولي يعرف جيدا أن جماعة الحوثي لا تندرج ضمن المكونات الحزبية ذات الخلفيه الإيديولوجية التي يمكن إلزامها باتفاق محدد أو إشراكها في العملية السياسية، وإنما تعدّ جماعة دينية بخلفية مذهبية، ومهما فعلت فإنها لن تحوّل اليمن إلى ذلك البلد الميؤوس من أمره، وإن كان رميمها يتوقف تدريجياً عن الإيحاء باحتمال الحياة والانبعاث من جديد، بعد هذا الكمّ الهائل من النكبات.
لا مَرِيةَ في أن مصابنا في وطننا عظيم، وتحديداً في ظل هذا المد الطائفي والتواطؤ الدولي الذي يعمل على استثمار عامل الوقت لبث اليأس في نفوس الجميع وإيهامهم بأن عملية التغيير باتت صعبة، بسبب ما آلت إليه الأوضاع من سوء حالٍ وبِئْس مآل وتراكم للآلام نتيجة لفساد الآمال والاختلال الفكري في وضع تصوّر حقيقي لاستعادة الشرعية والدولة الحقيقية.. في وقت "تطرب" بعض دول العالم بسماع حشرجات نرجو ألا تكون الأخيرةَ للقضية اليمنية، التي تعدت مستوى الخلاف إلى التناقض، أو لعلها تعدّت الأمرين معاً.. فالبلد يمر بظروف عصيبة، و من الأجدر معالجة أسباب ما يجري، وليس أعراضه.