أكذوبة الدولة لدى جماعة الحوثي

فضل الكهالي
الاربعاء ، ٠٦ ابريل ٢٠٢٢ الساعة ١١:٠٣ مساءً
مشاركة

ليس مُستغرَبا أن تدور جماعة الحوثي حول نفسها بصورة خارجة عن نطاق السيطرة، لكن الفذلكة الإعلامية هي الشيء الوحيد الذي تحت سيطرتها. فقد ذهب الناطقون باسمها إلى حد بعيد في المجادلة حول وجود إدارة حقيقية في مناطق سيطرتهم وإن هذه الإدارة في تطور إيجابي مستمرّ..

وكأنهم يريدون إيصال رسالة إلى أنصارهم مفادها “إننا وضعنا خصومنا تماما حيث نريدهم أن يكونوا”، ومن الأفضل أن نخوض صراعاتنا هنا من على المنبر على أن نخوضها في مكان آخر على الأرض. بيد أن تهرّبهم من المفاوضات العلنية يقود إلى نتيجة واحدة مفادها أن الحسم لن يكون إلا على الأرض. فبعد أن فشلت حشود جماعة الحوثي في اقتحام مأرب لجأت إلى الاستعراض الخطابي والحرب الإعلامية وتصعيد أي جدل سياسي وتحويله إلى مسألة مبادئ رئيسية. إن هذه الجماعة ما زالت تفكر بالأسود والأبيض..

وهذا نتاج للجهل المركّب، وإن ادّعى مُعتنقوه أن غرضهم من ذلك تكتيكي. ففي السياسة لن يتفوق أي طرف بالجهل ولن يرحمه أحد، لأنّ من يُخفق سياسياً واقتصادياً أشبه بمن يقاتل على أرض خصمه، ومن الأفضل له أن يتناول الحقائق المعقدة الماثلة على أرض الواقع، وفي مقدمتها وضعهم كجماعة، وليس بثّ آمالهم الفئوية التي يريدون تحويلها إلى واقع. هناك غياب انسجام واتساق بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة في مناطق سيطرتهم وعجز عن توفير الخدمات العامة الأساسية للمجتمع. وهذا دور الدولة الذي لا يمكن أن تتنازل عنه، حتى إن السوق لا تستطيع أن تعمل دون أن تقوم الدولة بتوفير هذه الخدمات العامة.

ولا يقتصر دورها على الخدمات العامة الأساسية المتعلقة بالأمن والعدل والدفاع، بل يتجاوز ذلك إلى عدد من القطاعات الأخرى الضرورية، التي تحتاج إلى حماية الدولة، مثل حماية الحركة التجارية، وليس التلاعب بها، وغير ذلك من الأدوار القائمة على أساس الحفاظ على المصلحة الذاتية للأفراد، والتي لا تعدو أن تكون حصيلة تفاعل المصالح الخاصة كما تظهر في السوق. تتعمّد جماعة الحوثي تدمير البُنية الوظيفية وإغراق بيئة العمل بمُوالين لها لا يملكون أدنى مقومات شغل الوظيفة العامة ولا أية خبرة؛ علاوة على أنهم لا يحملون أية شهادات تؤهّلهم لشغلها، وفي مقدمتها شهادات جامعية.

الكثير منهم يخاتلون المجتمع الدولي قبل المحلي ويوهمونهما بأن أداءهم يتحسّن بصورة كبيرة. أما على المستوى العسكري فهُناك من ينتحلون رُتباً عسكرية رفيعة ممن لا تزيد أعمارهم على الـ30 عاما وربما أقل. وعلى الرغم من أنهم جمّدوا الجيش تماماً فإنهم يستقطبون من يريدون فيه. لقد أنتج الواقع الموضوعي أموراً مخالفة لمبتغى الجماعة، فالأوراق تتساقط من بين أصابعها واحدة تلو أخرى، بينما تتظاهر بأنها مستوعبة ومدركة تماما لما يدور حولها، لكنها تتجاهل أن إدخال الشعب في متاهة الثأر لها ولأطماعها كجماعة أصبح “كرتاً” محروقاً، محوّلة المواطنة إلى أيقونة تتغنّى بها على وسائل الإعلام المختلفة، بعد أن تخلّت عن المواطن وحوّلته إلى شخص يتدثر بالألم ويتوسّد المواجع ويلوك الهموم.

في حين لم تكف عن تجاوز التلمحيات حول المسألة المذهبية والمناطقية إلى درجة أن كثيرا من المواطنين أصبحوا على قناعة بأن سلوكاتهم غير المألوفة لمذهب جماعة الحوثي قد تسبّب لأولئك المواطنين مشاكل جمة. وقد أصبح بعضهم على يقين من أن الفوز في ميادين الحياة والوظيفة لن يتحقق إلا باتّباع توجيهات قيادات وإعلام الجماعة، وهذه غاية أي تكتّل مذهبيّ يرى أنها تُعدّ إنجازاً. وبهذا، فإن اليمن لم ولن يقطع مسافة أبعد بكثير مما كان عليه خلال حكم الإمامة إذا ما ظلت جماعة الحوثي تُحْكم قبضتها على مناطق التكتل السكاني الأكثر تعداداً. الوضع مختلف بالنسبة إلى المواطنين، والصّعوبات التي يتقاسمون جوهرها تعرقل خطاهم، خلافاً لجماعة الحوثي الإنقلابية، التي تسعى إلى تفسیر واقع المواطن من خلال أنماط بعيدة كل البعد عن النمط الذي من المفترض أن يعيشه، وتحاول أن ترى الآخرين على ضوء تاريخها، غير الموجود أصلاً.

وهذا الأمر لا يؤدّي إلى جعل اليمنيين مجهولين فقط، وإنما أحرارا بدرجة أقلّ، تنتابهم مشاعر الوحدة أكثر. ولعلّ من عايشوا تجارب العزلة هم الأكثر إدراكا لوضع من يمرّ بالتجربة ذاتها وأكثر دراية بأنه من غير الطبيعي أن تتشبّث أية جماعة ملونة بخيار قياس المواطن بالمقاييس التي تستخدمها، والتي ترى أنها تحافظ على كيانها من خلال تطبيقها وتسعى إلى طمس هوية الشعب الخاصة. من الكارثي قتلُ الزّخم الشعبي المرتكز على الفكر السوي في بلد مُتعطش إلى الحرية كاليمن، بعيداً عن العاطفة الدافقة أو الميول الفردية، إذ تتعمّد بعض مراكز القوى وضع النخب السياسية والأمنية والعسكرية الحاكمة في مواجهة الشعوب للمحافظة على مصالحها القائمة أساساً على كيانات هشّة كالحوثيين.

وعلى الرغم من أن الاحتقان الداخلي يزداد ويتعاظم، فإن الإعلام يقوم بتمييع كل ذلك. فقد صوّرت مراكز القوى هذه للشعوب أنّ التصدّي من قِبَل الأنظمة القمعية لم يعُد سياسة فاشلة. وأقنعهم اللاعبون الكبار بأن تمكين المليشيات من كل شيء يعدّ استتبابا للوضع وأن الوسائل القمعية لا تمثل اليوم عاملاً قد يؤدّي إلى الانفجار كما هو متعارف عليه، خصوصاً بعد إغراق البلد في حرب مذهبية وطائفية وتدخّل خارجي. إن محاولة الدول النافذة إيجاد تتناغم خجول بين الميلشيات والشعب أمر ميؤوس منه ولن يؤدي إلا إلى المزيد من الفرقة و الشتات، إضافة إلى ما لمنح الميلشيات الاهتمامَ من أضرار أخرى على النظام الجمهوري، ما سيترتب عليه فساد وإفساد لأية عملية ارتباط حقيقية بين النظام وفئات الشّعب المختلفة؛ علاوة على أن تهميش التكتلات الحزبية تصرّف لاعقلاني الغاية منه التشكيك في ولاء المكونات الوطنية، التي تعمّدت بعض القوى تشتيتها وصرف الانتباه عنها وتحويلها إلى وسيلة لاحتواء الخصوم وتليين آراء أصحاب المواقف الشجاعة، بغرض استخدام آثار ذلك للتدخل في شؤون الدولة الخاصة.

ولا غرابة في أن موضع الاهتمام المفاجئ الغاية منه إثبات أن الاعتماد على الطرف الآخر (الشرعية) غير ممكن، وهُنا الخلل. فالجرم يكمن في نية الطلب والمغزى من استخدامه. ولهذا فإن عمليات التلاعب بأشكالها واردة جداً، لا سيما في المرحلة الحالية، التي وفرت أجواء لذلك. ولهذا يجب وضع حدٍّ لها قبل أن يتسع الخرق على الراتق. ويمكننا القول إن عدم وجود منهجية لبناء الدولة هو السّمة الأساسية في مناطق سيطرة الحوثيين. وحتى المجتمع الدولي لا ينتظر منهم ذلك، لأنه يرى أن الفوضى عمّت كل مكان، وفي الوقت نفسه يعرف أن هناك مراكز قوى توفر للحوثيين غطاءً سياسيا في المحافل الدولية.

فهي ترى أن الإرهاب سيد الموقف، ولهذا تعمل الجماعة على تجذير نفسها على الأرض وتتجاهل تماما المُعارضين لها. إننا عندما نقارن بين نظام شرعيّ وكيان مُغلق نجد الفرق في المصطلح أكثر من كافٍ لوضع التشخيص المناسب لمأساة اليمن المعاصرة، فجماعة غير عاقلة كالحوثي، دائمة التقلب والتلون، يبغضها الجميع، ليست نداً للشّرعية التي تستند إليها جماهير الشعب. ولهذا يجب على الشرعية أن تكون أكثر مقدرة على التحكم في عواطفها، لما لديها من رصيد خبرة تراكمي في التعاطي مع الجماعات المتطرفة كـ”الحوثي”، وعليه فإنه من الواجب ألا تتقبل قيادات النظام الجمهوري أية استفزازات تهدف إلى النيل من مكانتها وأن تكون أكثر حزماً في ما يخصّ القضايا الوطنية. قد تبدو أية مقارنات في غير محلها وفي غير زمانها ولا حتى منطقية إذا ما قورنت بفظاعة وفداحة ما يمرّ به اليمن والمنطقة حالياً.

فالدولة، التي كرّس دستورها العدل والمساواة، أصبحت تُدار من قِبَل جهلاء، أكثر ما يذكرونه أو يتفوهون به هو كم كانوا محرومين من حقوقهم الأسَرية، بما فيها حقهم في الحكم، ولهذا يبالغون في الغلو والإساءة المُستمرّة إلى النظام الجمهوري، الذي بدؤوا يسلبونه من الشعب تدريجياً. فاليمن يمرّ اليوم بمرحلة مفصلية، والمسألة بالنسبة إلى اليمنيين مسألةُ حياة أو موت. ووجود من يشعر بمعاناة المواطن اليمني ويسعى إلى إخراجه من متاهة اليأس والكرب اللذَين يظنّ البعض أنه لا نهاية لهما أصبح ضرورة مُلحّة إن لم يكن أكثرها إلحاحا. فالحوثيون جعلوا من المواطن اليمني كائناً لا يطيق الحياة بصورة أفضل. بينما جعلت بعض مراكز القوى حياته أقرب إلى الموت البطيء.