الحقيقة المرة التي نسمعها دائما هي أن "اشعال الحرب أسهل من تحقيق السلام" ، حقيقة مؤلمة ودلالاتها كبيرة، وهذا ما يجب أن نستوعبه جيدا في لحظاتنا الوطنية الحرجة كي لا تتكرر سيناريوهات الحروب التي تبدأ من مستصغر الشرر، ولم يكن في الحسبان تداعياتها ونتائجها وصعوبة إعادة ترميم الشعوب بفعل ما يحدث في زمن صراع المصالح.
طريق البحث عن السلام شاق بل ومتعرج ولا يعرف السالكون فيه متطلباته كي يترسخ ويصنع عقدا جديدا لشعوب اكتوت بنيران الحروب وتجارها والمستفيدين منها، وقولا واحدا لا يمكن أن يكون السلام مجرد لحظات وعواطف لحظية تجعل تجارها يطالبون بسلام منقوص ومشلول ،وطي صفحات الماضي التي انتجت هذه الحروب، وهذا يختلف كثيرا عن الخطوات التي يمكنها حشر الجميع في الزاوية ووضعهم أمام المسؤولية الوطنية والأخلاقية لانجاح أي عملية سلام.
من يصنع التعرجات في طريق السلام هم الذين أشعلوها، وكانوا أصحاب الرصاصة الأولى في جسد الأوطان والشعوب واستفادوا منها، ولذا فإن البحث عن السلام من نافذة السجالات السياسية وتحقيق مصالح وأهداف بعيدة كل البعد عن طموحات الشعوب لا يمكن أن يؤسس لمرحلة استقرار لوضع نقطة النهاية للحرب أيا كانت أسبابها ودوافعها التي لا يمكن تبريرها في كل الأحوال.
وحدها الشعوب هي من تبحث عن السلام وتنشده بتجرد ونوايا صادقة ، هي فقط من تجرعت مرارة الحرب ، وهي من يحق لها رفع أصواتها أملا في تحقيق ذلك لانهاء المعاناة التي أذاقتهم ويلات والصراعات والانقسامات، هي من تمتلك الحق في مطالبة الجميع بتحمل مسؤولية ما جرى ويجري ، وحدها من لها حق مساءلة الأطراف التي شاركت بصورة مباشرة وغير مباشر بإدخال البلدان في اتون الحرب.
في الحالة اليمنية الأمر سيئا للغاية، فالدعوات التي تطلق هنا وهناك لتحقيق وإرساء قواعد السلام هي دعوات مفرغة من مضامينها الحقيقية التي يفترض أن تمثل الشعب اليمني المقهور الفاقد للأمل من النخب السياسية التي ينبغي أن تكون أداة للتعبير عن تطلعاته وآماله لوقف الحرب وإغلاق صفحاته السوداوية.
وبناء على ذلك فإن تحديد أسباب الحرب وتقديم حلول ناجعة تحد من عدم تكرارها مستقبلا هي أهم خطوة يمكن القيام بها ،شريطة أن يسبق ذلك الشعور بالقدر الكبير من المسؤولية قبل أي جولة حوار وتفاوض، فلو ذهب الساسة والنخب لبحث خيارات السلام في ظل غياب تلك المسؤولية والرؤية هو إهدار للوقت والمواقف وأي تكاليف تفرضها بيئة أي عملية تفاوضية.
ولذلك فإن للسلام شروط، وحين تنعدم هذه الشروط للانخراط في سلام شامل وكامل لا يمكن أن يكون أي طرف شريكا فاعلا في صناعتها، وهنا يجري الحديث عن الأطراف المسؤولة عن اشعال الحرب وإدخال البلد في نفق مظلم ضاعت فيه كل الخيارات والحلول والنقاشات، في ظل المكابرة، والإصرار على إلحاق الهزيمة بالخصم والعدو كما يمكن وصفه. هناك أطراف لها ولاءات متعددة تقود جهود وتحركات من خلف الستار، وهي وحدها من رأت في ذلك مصلحة نابعة من عمق المعاناة الانسانية للمواطن اليمني وتعود بالنفع لمن يقودها، ولا علاقة لها بمن ألحقت بهم الحرب كل هذا الضرر الكبير خلال السنوات الماضية وهو الشعب اليمني، وجميعنا ندرك ونعي أنه ثمة مستفيد ومتضرر مما يحدث ، إلا أننا للأسف نُخضع ذلك لمعايير ترضي هذا الطرف وذاك .
الدعوات العابرة لوقف الحرب وتحقيق السلام بتلك السطحية هو أمر مستفز للغاية ، فالشعب اليمني أصبح مدركا أن كل ما يحدث مجرد بيع وتسويق للوهم بعيدا عن الواقع، والصورة المصغرة لتأكيد ذلك ما أنجزته الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من أجل وقف المعاناة اليمنية التي أفرزتها الحرب منذ أواخر العام 2014 وحتى الآن. المتغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاجتماعية في اليمن أصبحت غير كافة لاقناع هؤلاء الواهمون أن السلام ليس مجرد فكرة قابلة للنقاش وصياغة حلول على الورق بعيدا عن القراءة المعمقة عن الوضع وأسباب الحرب الحقيقية التي أوصلت البلاد إلى حافية الانهيار وطريق اللا عودة.
كيف يمكن اقناع من لديهم مصالح من استمرار الحرب أن ما يقومون به هو مضاعفة للعبء الثقيل أصلا الذي يتحمله المواطن اليمني؟ هذا السؤال لن يجد إجابة منطقية وصريحة من الجميع، الحوثي يفرض سيطرته على الأرض بقوة السلاح شمالا، وحكومة معترف بها دوليا عاجزة عن القيام بمهامها والايفاء بالتزاماتها داخليا وخارجيا، ونخبة سياسية وحقوقية وإعلامية وغيرها وجدت البيئة المناسبة للعب على الوجع اليمني دون اكتراث.
لم يعد الشعب اليمني يثق بهذه الدعوات التي أصبحت محل سخرية وتندر وازدراء، بل جل اهتمامه يتركز على لقمة العيش والنوم والشعور بنوع من الأمان وسط هذا الوضع المزري حتى تأتي الانفراجة وتتوقف الحرب، ومن المؤسف أننا نجد من يروج لنفس هذه الأسطوانة وهذا التكرار بأشكال وطرق مختلفة في محاولة لجعل الوهم حقيقة بنظرهم.
كيف يمكن لمسوقي فكرة السلام بتلك الطريقة الرديئة أن يقنعوا الداخل اليمني بأن السلام قادم بقوة طالما العوامل الخارجية المؤثرة ما تزال قائمة وهي المهيمنة؟ يعتبر هذا استخفافا بالكارثة وتبعات الحرب التي تسللت إلى كل بيت يمني، وليس من المعقول تصديق كل ما يقولونه بلغة مطاطة أن السلام ممكنا في ظل غياب التصورات والرؤى الكاملة لصياغة حلول جذرية تؤسس لسلام دائم وتوقف الحرب لا تؤجلها لتعود مستقبلا.
بالمفهوم الذي أصبح متعارفا لعامة اليمنيين أن مروجي فكرة السلام في الدهاليز مع من اشعلوا الحرب هي بالتوصيف الصريح شبكات ناعمة استثمرت اللحظة وبنت علاقات مع مراكز صنع القرار الخارجي أملا في تحقيق مصالح لا صلة لها باليمن المنكوب، هي محاولات لمساواة الضحية بالجلاد وتقديم قادة الحروب كصانعي سلام، وهذا أخطر ما يعيشه اليمن في المرحلة الراهنة الصعبة.
ومن الطبيعي أن يقوموا بأدوار لا تختلف كثيرا عما تقوم به الأمم المتحدة والدول الراعية للملف اليمني، لديهم اعتقاد أن أطراف الحرب ومموليها على استعداد لسماعهم، وهم في حقيقة الأمر يدركون انه لا يمكن حدوث ذلك، ولا يكمن أن تؤخذ دعوات السلام بهذه الطريقة،لانهم يعرفون مدى تصلب مواقف تلك الأطراف تجاه السلام ومساعي وقف الحرب، فكل كل طرف يريد سلام يخدم مصالحه دونما اعتبار لمستقبل البلد والشعب.
ولذلك فإن ما يقوم به هؤلاء هي محاولات لتلميع الوجه الذي شوهته الحرب في اليمن المنهك، هي محاولات محكوم عليها بالفشل لكنها بمقابل ودعم مادي وسياسي قد يكون في المستقبل القريب خطوة لصناعة مركز سياسي يمتلك نفوذ لتصدر المشهد على أكوام من الأزمات المتلاحقة واعتباره كمنقذ للبلاد، وانتشاله من مستنقع الحرب والدمار والصراعات بالوكالة على النفوذ والمصالح.
مرت عملية السلام في اليمن بجولات عدة ورحلات مكوكية جميعها لم تفضي لحل يفك شفرة هذا التعقيد للملف اليمني برمته، وهذا مؤشرا على أنه لا توجد ملامح للسلام ووقف الحرب، بل برزت للسطح بيئة خصبة لظهور جماعات وكيانات مجتمعية وحقوقية وإعلامية وسياسية ناشئة لاستغلال الحرب على مستوى الداخل والخارج، وتحاول اقناع العامة بشيء لا أساس له ولا قاعدة صلبة يمكن الانطلاق منها نحو السلام المستدام.
الدعم المالي الذي تقدمه الدول الغربية تحت مسمى تحريك المياه الراكدة في مسار السلام والمفاوضات كفيلة بإطعام ملايين اليمنيين الذين خوت بطونهم وتشردوا، وأصبحت تأويهم مخيمات تفتقر لابسط مقومات الحياة، هناك أموال طائلة تتلقاها تلك المكونات، وهذه واحده من الأسباب التي اعطتنا جميعا فكرة واضحة عن عدم جدوى الدعوات بإسم السلام بعيدا عن أي فعل حقيقي مقنع.
والأمر الأكثر سوءا أن المجتمع الدولي بكل أدواته ما يزال يشاهد هذا الوضع الصعب ويتقاعس عن بقاء تجار الحروب والسلام في المشهد، يدير هذه المصائب والكوارث وفق مبدأ المصلحة والكسب المادي بحجة دعم عملية السلام في البلاد وتحسين الوضع المعيشي وتطبيع الحياة، في الوقت الذي ما تزال الخنادق مكدسة بالمقاتلين في كافة الجبهات وآخرين يساقون لفتح جبهات جديدة ، وهو ما يعمق الأزمة بل ويزيدها تعقيدا.
ومن الطبيعي أن يسأل المواطن اليمني ما الذي قدمته الأمم المتحدة أو الدول الراعية للملف اليمني أو حتى المكونات والنخب اليمنية محليا وإقليميا ودوليا، وباعتقادي لا توجد هناك إجابة جريئة وشجاعة لمصارحة اليمنيين إلى أين يتجه البلد بعد كل ما حدث ويحدث، ومن الطبيعي أيضا الاستفهام عما ستجلبه دعوات السلام والحوارات لليمنيين طالما أهدافها واضحة وتأثيرها محدود للغاية.
اليوم ليس بمقدور الساسة أو المكونات المدنية اقناع المواطن اليمني بجدوى الحديث عن السلام والنقاشات المتمحورة حول الوضع العام ، ليس بمقدور الوكلاء المحليين للأطراف الخارجية مجاراة المزاج الشعبي اليمني في الداخل والخارج، فالجميع أصبح يدرك غياب الوعي الوطني الحقيقي في سبيل تخليص البلاد واخراجه من دوامة الحرب والتشظي.
في نهاية المطاف السلام يحتاج فعل حقيقي على الأرض، كلفته باهضة كما اشعال الحرب وربما أكثر، ويحتاج لتنازلات الجميع ورغبة وطنية بعيدا عن كل هذا الهراء الذي نسمعه ونشاهده جميعا، تجدد التأكيد على أن تفريخ وفرز القضية اليمنية على هذا النحو يعتبر خطرا يتهدد البلد ويعمل على إطالة أمد الحرب بكلفة باهضة أكثر من السابق. من ينقذ البلد من هؤلاء؟