ينتظر الإنسان عطلةَ نهاية الأسبوع بفارغ الصبر، ويتحيّن الفرص في كل مناسبة لكي يقتنص عطلةً شهرية أو أسبوعية يتمكّن من خلالها التقاط أنفاسه قليلا، وأخذ قسط من الراحة يتحرّر به من ضغط العمل أو عبء الدراسة. لكنّ اللافت في الأمر أن هذه العطلة حينما تأتي دونَ سابق إنذار لظرفٍ استثنائيّ غير متوقع، فإننا سرعان ما نفقد تمالكنا لأنفسنا مما يطرحُ تساؤلاتٍ عدة، أبرزها: لماذا نخاف من العزلة الاجتماعية والبقاء فترة دون مخالطة الناس؟ ولماذا تُرعبنا فكرة أننا مقبلون على شيء نجهله ولا نعرف عنه شيئا؟ ولماذا يُصاب الناس بالهلع المُفرط في وقت الأزمات والكوارث؟ ولماذا نُصاب بقلقٍ مُربك حين نضطر لأن نوجد مع أنفسنا لوحدنا؟ وهل هناك أسباب عميقة وراء قلقنا اليومي؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يمكننا أن نتجه لعلم النفس الوجودي، والذي تأسس على أطروحات الفلسفة الوجودية التي أرسى قواعدها عدد من الفلاسفة الوجوديين أمثال كيركيجارد، ونيتشه، وهايدغر، وسارتر(1).
وبحسب الطبيب النفسي الأميركي إرفن يالوم، أحد رواد العلاج النفسي الوجودي، فإن جذور القلق الإنساني وما يعانيه المرء من مشكلاتٍ ومخاوف في حياته اليومية ليس إلا تشكُّلاتٍ سطحية لأربع أزمات وجودية جوهرية تواجه كل إنسان على الدوام(2).
تُعيد هذه الأزمات إنتاج نفسها بصيغٍ متعدّدة مباشرة وغير مباشرة، وبقدر ملامسة الموقف أو الحدث الخارجي لإحدى هذه العُقَد الجوهرية، تكون ردة فعل الواحد منا أكثر عصابية، وأشد تشنُّجا وحِدّة.
وعلى العكس من ذلك، فبقدر تصالحنا مع هذه الأزمات، ومواجهتها بفلسفة وحكمة سليمة، يكون تفاعلنا مع نوائب الحياة ومُلمّاتها أكثر هدوءا واتّزانا.
ويمكن إجمال الأزمات الوجودية الأربع(3): أولا بالخوف من الحرية الذي يترتب عليه شعورنا بالخوف من فقدان السيطرة على كل شيء، ثانيا الخوف من العزلة والإقصاء الاجتماعي، وثالثا الخوف على الذات من الخواء وفقدان المعنى، وأخيرا الخوف من الموت والفناء، وهو الشكل الأكثر حضورا في حياتنا اليومية(4).
(أن تُصاب بالذعر حين تشعر أنك ستفقد السيطرة)
خلافا لباقي المدارس النفسية، يرى رواد العلاج النفسي الوجودي أن جذور القلق الإنساني لا تكمُن في دوافع جنسية أو تشوّهات معرفية، بل في وعينا بواقع الوجود، أي إداركنا أننا الآن هنا في هذا الزمان وهذا المكان(5). الأمر الذي يُحتّم علينا ممارسة حريتنا والتفاعل مع الحياة واتخاذ القرارات وارتكاب الحماقات. ونتيجة لهذا الوعي، نُصاب بالهلع الداخلي، فنقضي حياتنا ونحن نحاول السيطرة على كل ما يصيبنا وكل ما نتعرّض له، آسفين على ما فاتنا، ومذعورين مما سيأتينا.
وما نشهده من هلعٍ وتوتر يوميّ أساسه الخوف من فقداننا السيطرةَ على أنفسنا، وهو ما يتولّد أثناء تجربتنا لممارسة الحرية، إذ بالرغم من قيمة الحرية السّامية في هذا الوجود، فإن ممارستها بحد ذاتها أمرٌ مربك ومثير للذعر. فالإنسان بطبعه يميل للارتكاز على نقاط الأمان التي يعرف (بدءا من الرحم (النقطة الأكثر أمانا ومنعدمة الحرية)، ومرورا بالطفولة (النقطة الأقل أمانا ومتوسطة الحرية)، ثم الشباب (النقطة الأقل أمانا والأعلى حرية). وهكذا فكلما ابتعدنا عن رحم الأم، كنا أكثر عُرضة للهَلع، وفقدنا أماننا المَكين. لكنه هلعٌ لا بد منه، إذ على المرء أن ينضج وأن يمارس حريته، وأن يبتعد عن الاتكاء دائما على والديه أو نقاط الأمان التي يتخذها لنفسه، وإلا سيبقى مكانه دائما وأبدا، دون أن يتقدم خطوةً واحدة إلى الأمام. فكلّ قرار جديد نتخذه إنما هو مخاطرة من حيث الأمان، وتقدُّم من حيث ممارسة الحرية(6).
هكذا وبحسب عالم النفس الألماني إريك فروم، فإن الناس بطبعهم يخافون من الحرية، إنهم يحبون أن يُملى عليهم ما يجب عليهم فعله، يحبون الخُطط المُعدّة سابقا والسير في مسارات مرسومة بالأساس. ولذا يقضي معظم الناس حياتهم كغيرهم؛ خائفين، من دون تفرّد أو امتياز. أما ممارسة الحرية فهي تَقدّم إيجابيّ في خبرة الحياة واكتشافها والتفاعل مع الوجود. ونتاج هذا كله: إيجادنا معنى حياتنا، وأن نغدو أكثر نضجا وحكمة. غير أن عبء الحرية مُكلِّف ومخيف، ألا وهو القلق؛ قلق الحرية(7).
إحدى أكثر الطرائق شيوعا في حماية المرء لنفسه ضد شعوره بالذنب أو الخزي هو إزاحة مسؤوليته عما حدث في الماضي
وقد لاحظ علماء النفس الوجودي عددا من الطرق التي يحاول الفرد من خلالها حماية نفسه من قلق الحرية. فقد يلجأ المرء للتسويف، والتأجيل، أو التلكؤ، لكي يتجنّب اتخاذ قرار ما، أو قد يتظاهر المرء باللا مبالاة حالَ عجزه عن القيام بفعل ما، أو قد يُشغلِ الإنسان نفسه بتصرفات غير متعلقة بالحدث الذي يقلقه، كمحاولته تشتيت وعيه من قلق الحرية عبر تطوير سلوك قهري أو وسواسي مثل: وسواس النظافة (وهو أمر يمكن السيطرة عليه ويُشعره بالأمان)، وقد يحاول شاب ما، يواجه قلق الحرية في تحديد مصيره المهني أو الوظيفي، أن يُجنِّب نفسه كل هذه المعاناة من خلال إسقاط مسؤوليته على والديه.
يلجأ الناس كذلك إلى إستراتيجيات دفاعية مماثلة لتجنُّب القلق الذي تتسبب به اختياراتهم السابقة في الماضي، وإحدى أكثر الطرائق شيوعا في حماية المرء لنفسه ضد شعوره بالذنب أو الخزي هو إزاحة مسؤوليته عما حدث في الماضي، باعتبار أن سببا خارجيا أو شخصا آخر كان قد تسبّب به له. وبحسب علماء النفس فإن معظم السلوكيات الدفاعية التي يطوّرها الأفراد لتجنب قلقهم بدلا من مواجهته قد تمنحهم شعورا سطحيا ولحظيا بالأمان، لكنها في نهاية المطاف، بعد مُراكمات متتالية وتجنب مستمر، تتسبّب في مشكلات وتوتّرات عميقة ودائمة(8).
(أن تدرك أنك في نهاية المطاف تواجه هذا الوجود لوحدك)
في كتابه "البحث عن الذات"، يلفت رولو ماي الذهن لالتفاتةٍ لطيفة حين يقول: "يتحدث الناس يوميا مع بعضهم بعضا حول الموضوعات نفسها، والأحاديث نفسها التي تحدثوا بها في الأمس. ليس المهم عندهم ما يقال، بل المهم الإبقاء على نوع من التواصل، إنه جزء من تأكيدنا لأنفسنا، أننا ما زلنا موجودين، وجزء منه لطَرد الوحشة، والدافع وراء الأحاديث والأفعال هذه كلها هي تلك الخشية العميقة في قرارة أنفسنا من أن نبقى وحيدين"(9).
تبدأ القصة حين يدرك الفرد أن هناك فجوة غير قابلة للامتلاء بينه وبين أي موجود آخر. فهو يشعر على الدوام بالوحدة، مهما فعل، وفي نهاية المطاف سيعود وحيدا ومدركا أن العالم ليس أنا، وأنا لست العالم. والآخر ليس أنا، وأنا لست الآخر. يتسبب وعينا بهذه الفكرة بشعورنا بالوحدة والعزلة، مما يثير قلقنا الداخلي.
لا يظهر شعورنا بالعزلة والوحدة بشكل مباشر، إنما تتولّد لدينا رغبة أوضح في سعي الناس الدائم لأن يُلاحَظوا ويُنتَبه لوجودهم من قِبل الآخرين. تماما كطفل صغير يصرخ: "انظر إليّ.. انظر إليّ". وقد يذهب الخوف من العزلة لأقصاه حين تتولّد لدى الفرد رغبة مستميتة في الشهرة، فيقوم بأفعال وسلوكيات درامية بطريقة شاعرية غير واقعية كمحاولة للفت الانتباه. والغريب أن كل محاولة للالتفاف على المواجهة الناضجة لشعورنا بالعزلة، تُفضي في نهاية المطاف إلى شعورنا بالمزيد من الوحدة. فكل محاولاتنا للتشبُّث بالآخرين هربا من خوفنا من مصاحبة أنفسنا ومواجهة عزلتنا إنما تُفضي في النهاية إلى المزيد من الشعور بالوحدة.
على مستوى العلاقات العاطفية والاجتماعية، فهذا النوع من الخوف تحديدا يتسبّب بالعديد من الإشكالات، إذ المرء نتيجة خوفه من العزلة، ونتيجةً لإدراكه أن وجوده منفصل جوهريا عن وجود باقي الكائنات، تتعاظم رغبته في التماهي مع الآخرين، أي البحث عن إلغاء المسافة الفاصلة بينه وبين الآخرين، فينهج في سلوكه التدخل المُفرط في حياة الآخرين، ومحاولة السيطرة على شريكه أو أصدقائه أو التأكيد أننا شيء واحد، كما في لغة الشعراء، وهو أمر غير واقعي يتسبّب بعدد من المشكلات. وهكذا فقد يَعمَد الإنسان مثلا لإلغاء شخصية مَن يحب، بِنيَّة خيّرة وسليمة هي "حب التوحُّد معه ومطابقة ذاته مع ذات مَن يحب"، فيسلبه شخصيته، مانعا إياه من التصرف بحرية. لأجل ذلك ينبّه إريك فروم أن الحب الناضج والصحي هو ذلك الذي يدرك فيه الطرفان فرادَة الآخر منهما، في الوقت الذي يلتحمان فيه معا في علاقة واحدة تحترم شخصية الآخر وعُزلته.
أما على الصعيد اليومي، فأبسط تجليات هذا الخوف هو الإرباك الذي يُصيب الإنسان حين يكون وحده، حيث يحاول كثير من الناس تشتيتَ أنفسهم من خلال الإمساك بأجهزتهم عوضَ أن يقضوا وقتا مع أنفسهم ويتأملوها بهدوء، وعوض أن يقضوا وقتا حقيقيا مع أبنائهم أو مع مَن يحبون. يذهب المحلل النفسي البريطاني ستيفين غروش إلى أننا نستخدم التشتيت والانشغال كوسيلة دفاع ضد شعورنا وإدراكنا لأنفسنا، كي لا نستحضر اشتياقنا مثلا لشخص ما، أو لكي لا يصير مطلوبا منا أن نصير أكثر حضورا بشخصيتنا الحقيقية، وهو أمر قلما نعرفه عن أنفسنا.
وبحسب فروم فالمشغولون مرعبون، "الإنسان الذي يملأ الدنيا ضجيجا وصخبا حاذِره. فهو في الغالب لا يملك جسارة تأمل نفسه في المرآة، والجلوس ساهما لساعات في مساءلة قُبح العالم أو جماله. وبلحظة خروجه من العمل يبدأ تفكيره بالتسكّع، والخروج مع الأصدقاء، والثرثرة فيما يُفيد وما لا يفيد. لا يتحمل بقاءه وحيدا، لا يمتلك شجاعة مواجهة القلق الذي يُستثار حال مواجهة ذاته"(10).
(أن تفقد قدرتك على تعريف نفسك أو معنى حياتك)
يحس المرء بصعوبة مركّبة وهو يحاول أن يجد ذاته في هذا العالم، إنه يخشى أن يمضي العمر به دون أن يعرف قط مَن هو. فالعالم كبير للغاية، وتدفق البشر لا ينتهي، وقد استهلك مَن سبقنا معظم الاختراعات والاكتشافات والتصرفات التي كان بإمكانها أن تجعلنا متميزين. كان الناس في الماضي يولدون بهوية واضحة ومعروفة (كأن تولد ابنا لشيخ القبيلة، أو أن تكون الطبيب الوحيد في القرية)، أما الآن فقد صارت هوية المرء مسؤولية الفرد نفسه في أن يصنعها وأن يجدها في هذا العالم الضخم والسياسات الكبرى التي تُشعِره بالضآلة وتصاغر ذاته وأحلامها وقيمتها في العالم(11).
هناك طُرق احتجاجية عديدة يمارسها الأفراد لتعريف ذواتهم في عالم لا يأبه للهويات الطبيعية المستهلكة، أبرزها العنف أو التطرف المثير للانتباه والملاحظة، وكذا انتهاج سلوكيات غير طبيعية وغير اعتيادية ولو بدت مريضة أو مثيرة للشفقة، لكنها في النهاية تجلب الانتباه والملاحظة.
إن الشعور بالفراغ والخواء الداخلي ما هو إلا نتيجة طبيعية لغياب المعنى الذاتي وفقدان المرء للغاية من وجوده بالأساس، فإذا لم تكن الغاية من وجودي الوظيفة التي أعمل بها، فماذا إذن؟ يلجأ الناس لسلوكيات عديدة مثل الموسيقى ذات الأصوات الصاخبة كوسيلة لطرد الوَحشَة وزيادة مُدخَلات الذهن فلا يفكر في نفسه، وهو سلوك قديم كان يمارس في الغابة ليلا، لتَطرد به الجماعات وَحشة الغابة والليل عبر التجمهر وقرع الطبول والأصوات الصاخبة والرقص حول النيران(12). وقد تنبّه فيكتور فرانكل إلى أن الناس ينغمسون في الملذات والشهوات اللحظية والآنية بشكل أكبر كلما شعروا بفقدانهم للمعنى والغاية من وجودهم(13).
أما في أوقات الأزمات، مثل العزل المنزلي الصحي نتيجة الأوبئة أو منع التجوال نتيجة الحروب، يقاوم الكثير من الناس لاستمرارهم بأعمالهم الخارجية، لا لضرورة النجاح أو الفشل الاقتصادي فحسب، وإنما لأنهم اعتادوا أن يُعرِّفوا أنفسهم بهذا الدور، إنهم لا يعرفون أنفسهم خارج وظائفهم، ولا يعرفون كيف يقضون أوقاتهم بعيدا عن انهماكهم بالعمل والإنتاج. وهذا ما يحدث حين تُعرِّف نفسك باعتبارات خارجية، ففي الأوقات العادية تظهر هذه العُقدة على شكل أفراد لا يرغبون بالعودة للمنازل بعد انتهاء العمل لخوفهم من الوحدة وقدرتهم على تعريف أنفسهم خارج العمل.
(أن تُدرك أن ما يمضي لن يعود أبدا)
الموت بالنسبة لعلماء النفس الوجوديين هو المصدر الأساس للقلق الإنساني على اختلاف أشكاله(14). ويستهلك الفرد نفسه وطاقاته في الحياة كمحاولة لديه لإنكار الموت. فبالإضافة إلى موتنا الذاتي، تُقلقنا فكرة احتضار مَن نحب، وهذا الوعي بمدى محدوديتنا وفنائنا مع ترقبنا لهذه اللحظة المليئة بالريبة واللا يقين، يستثير لدى البشر قلقا هائلا.
في مواجهة قلق الموت، يستخدم الأفراد إستراتيجيات عدة لتقليل وعيهم بقلق الموت، مثل اعتقاد الفرد بأنه ذو خصوصية استثنائية (Specialness) من خلال القيام بأعمال غريبة واستثنائية ونادرة، مثل المخاطرة والعدوانية، وقد يستخدم إستراتيجيات أخرى مثل الانشغال الدائم كإدمان العمل (Workaholics) أو مثل الإفراط في أنشطة جنسية قهرية تهمس في أذن الموت بأنه ما زال يتمتع بالحيوية والنشاط، أو قد يتخفّف من هذا القلق كله عن طريق تجارب الانسحاب من الواقع والذهول عنه من خلال الإدمان على الحشيش والمخدرات التي تخفف من حِدّة إدراكه لواقعه وآلامه(15).
ولا يتوقف الأمر على ذلك، إذ تنبّه إرفن يالوم إلى أن قلق الموت قد يتسبّب أيضا باضطرابات نفسية عديدة، لعل أهمها كما يقول أن الكثير من الناس يواجهون قلق الموت بطريقة احتجاجية حين يرفضون من غير وعي منهم أن يعيشوا بكامل ممكناتهم ومطلقها. فالطريقة الاحتجاجية هنا على الموت تكون بأني لن أعيش حياتي أصلا، ولن أحتك بالحياة بكامل نشاطي ولن أتعلّق بها. وعلى بداهة الفكرة، غير أن الناس ينسون هذا في الغالب؛ ينسون أن الحياة لا تتيح لك نفسها مرتين، ولا تعطيك خيار تأجيل العيش ولا تفويضه لأحد ما ليقوم به بالنيابة عنك. وعلى هذا، فإن أفضل طريقة لمقاومة الموت هي أن تبدأ بالعيش. مواجهة الموت بجرأة ونضج يجعله أكثر جدية في التعامل مع الحاضر ويستخرج أجمل ما فيه.
من بين المخاوف الوجودية الأربع، شغل "الخوف من الموت" الحيز الأكبر من البحث العلمي لأسباب موضوعية هي أنه الخوف الأكثر تجليا في الحياة اليومية، ولأن فريقا من العلماء استطاع أن يُطوِّر مقياسا تجريبيا يُمكِّنهم من قياس مدى حضور وكثافة الخوف من الموت في حياة الأفراد عبر ما صار يُعرف لاحقا بمقياس القلق من الموت (Death Anxiety Scale) (DAS). * وهذا كله يقودنا للسؤال التالي: أين يتجلى الخوف من الموت في حياتنا اليومية؟
لو أن أحدا ما قام بخنقك بالوسادة، أو لو أنك وقعت فجأة في بركة ماء عميقة، فإنك ستُصارع مذعورا حتى تتمكّن من التنفس. ولو أن سيارة ما جاءت مسرعة نحوك، فإنك ستفرّ هاربا منها. ولو أنك كنت مسافرا على متن طائرة، وسمعت صوتا مدويا في محرك الطائرة، فإنك وركاب الطائرة ستسارعون بالهرب وستصابون بالهلع والخوف، لأن الخوف من الموت مزروع فينا وفي غرائزنا، مثلنا مثل العديد من الحيوانات، في جهازنا الحوفي (The Limbic System).*
جميعنا نخاف الموت، لكن بعضنا أشد وعيا من بعض، وحتى أولئك الذين يبدون أنهم لا يخشونه إنما هم يدفنونه في لا وعيهم
يُخيفنا كل ما يُهدِّد حياتنا، لكننا كبشر نختلف عن الحيوانات في أن الفص الجبهي (Frontal lobe) للقشرة الدماغية (Cerebral Cortex) لدينا يُمكِّننا من إدراك موتنا في أي وقت، حتى في الأوقات التي لا يتهدّدنا فيها أي خطر. فالإنسان هو الكائن الوحيد -فيما نعرف- الذي بإمكانه أن يتخيل موته أو موت عزيز عليه أو موت أي كائن آخر، وهو الكائن الوحيد الذي يعي أن موته أمر محتوم لا مفرّ منه سيحين عاجلا أم آجلا.
في عام 1973، أثار إرنست بيكر، وهو عالم نفس وأنثروبولوجي أميركي، نقاشا واسعا بين الباحثين عند إصداره لكتابه المشهور "إنكار الموت" (The Denial of Death) الذي منحه جائزة بوليتزر التي تُقدِّمها جامعة كولومبيا سنويا. جادل بيكر في كتابه هذا أن خوفنا من الموت هو الدافع الرئيسي وراء معظم السلوكيات البشرية، وأنه في حالاته الشديدة هو السبب الكامن وراء الكثير من الاضطرابات النفسية.
فالإنسان، بحسب بيكر، يملك حقيقتين منفصلتين: حقيقة بيولوجية مادية، وحقيقة رمزية معنوية، وإنها لمفارقة مخيفة أن يدرك المرء أن هذا الإنسان الذي لديه اسم وعائلة وتاريخ وإنجازات وممتلكات هو نفسه هذا الجسد الذي يغطيه التراب وتبتلعه الأرض ويختفي للأبد. جميعنا نخاف الموت، لكن بعضنا أشد وعيا من بعض، وحتى أولئك الذين يبدون أنهم لا يخشونه إنما هم يدفنونه في لا وعيهم. ونحن نتجاوز الخوف من الموت بإحدى ثلاث طرق: الإنكار، الهرب، التسامي. ويحدث الإنكار والهرب بالانشغال والتشتيت والتجاهل، ويحدث التسامي بالتركيز على حقيقتنا الرمزية والمعنوية، حين نؤمن بأن الموت ليس النهاية إلا لحقيقتنا البيولوجية المادية، أما حقيقتنا الرمزية المعنوية فهي خالدة(16).
يبدو أن أسلافنا قد كانوا معنيين أيضا بتجاوز قلق الموت من خلال تأكيد قيمتنا الرمزية، كمحاولة لتخليد ذكر موتاهم، ويعود بنا التاريخ إلى أبعد من خمسين ألف سنة، حيث أقدم مواقع للدفن والتي تُظهِر بعضا من طقوس التخليد الرمزي والإيمان بحياة ما بعد الموت. وإحدى طرق التخليد الرمزي هي أن ننسب أنفسنا إلى ما يُمثِّلنا ويستمر بعد رحيلنا، مثل: القبيلة، الأمة، الوطن، النسل، الأبناء، مساهماتنا الأدبية والعلمية والفنية. وأقدم القصص التي نعرف حول هذا كله ملحمة جلجامش، فقد كان جلجامش مهجوسا بكونه فانيا، فراح يسترضي الآلهة لكي يمنحوه سر الأبدية، ثم راح يبحث عن ترياق الخلود، وحين فشل في هذا كله، جاء في نفسه أنك إذا أردت أن تكون خالدا فعليك أن تقوم بأفعال خالدة، أن تفعل خيرا وأن تعمر الأرض بالآثار والمنشآت العظيمة.
لاحقا، قام فريق بحثي مكوّن من ثلاثة باحثين في علم النفس الاجتماعي يترأسه شيلدون سولومون بسلسلة دراسات تجريبية على أطروحة إرنست بيكر، وصاغوا نظرية إدارة الذعر (Terror Management Theory) (TMT) وهي النظرية ذاتها التي تُسمى أسماء مختلفة مثل: نظرية السيطرة على الرعب أو الخوف. وخلاصة هذه النظرية هي أنه في الأزمات الكبرى ولحظات الرعب القصوى، مثل تفجير إرهابي، أو انتشار وباء فيروسي قاتل، أو مثل التعرض لكارثة بيئية ضخمة مثل تسونامي، فإن الخوف الدفين من الموت يُعاد إلى الوعي البشري بصورة مباشرة وواضحة، بعدما كانوا يتجاهلونه أو يُنكرونه أو يهربون من التفكير به(17).
هكذا يُستدعى قلق الموت من اللا وعي، ويصير هاجسا أساسيا في الوعي الجمعي والفردي للبشرية، وهذا الاستدعاء في أزمنة الكوارث والمصائب والحروب والقتل يصير مقلقا بطريقة مفرطة تتسبّب بالهلع والتخبط، وهو الأمر ذاته الذي يُفسِّر لماذا يتدافع الناس للأسواق والصيدليات والمخابز بطريقة هستيرية قبيل فرض حالة الطوارئ أو عدم التجوال أو العزل الصحي.
أرفف فارغة في المحلات بعد إقبال الناس على شراء الغذاء بسبب تخوفهم من فيروس كورونا (رويترز)
يتجاوز الناس هذا الهلع والذعر في الأزمات عبر إستراتيجيتين رئيسيتين: أولا، رؤية العالم (Worldview)، أي الإيمان برؤية جماعية يتجاوز فيها الإنسان خوفه من فنائه بالموت من خلال تركيزه على الأفكار والرؤى الكبرى، مثل: الدين، الأمة، الوطن، الجماعة، القبيلة، كمحاولة للتخليد الرمزي من خلال نسبة ذواتنا إلى ما يبقى بعد موتنا. وهكذا يتعاظم الحديث عن مدى تميز أمتنا أو وطننا ومدى خيريته ومدى حبنا وانتمائنا له، ومدى تماسكنا. أما الإستراتيجية الثانية: تقدير الذات (Self esteem)، أي تأكيد الأفراد على أهميتهم الفردية والشخصية من خلال تعظيم الدور الذي كان يقوم به، محاولا أن يؤكد لنفسه وللموت أن هناك دورا مهما أفعله في هذه الحياة، وكأنها وسيلتنا لإقناع الموت باستثنائنا لأننا مهمّون لهذه الحياة. ومن الأمثلة على هذه الإستراتيجية ما يفعله الكثير من الأطباء والمهندسين وذوي التخصصات المختلفة في تأكيد أهمية دورهم في هذه الأزمة، وما يُملون به على الآخرين من تعليمات وخطوات لحمايتهم، وهو أمر مفيد بالطبع، إلى حدٍّ ما(18).
ومن الملاحظ أيضا أن قيام أحد الأفراد في وقت الأزمات بنقد أو مهاجمة أحد تمثُّلات هاتين الإستراتيجيتين لإدارة الذعر ولمجابهة قلق الموت يُعرِّض المرء لإشهار الأسلحة من قِبل الجماعة في وجهه، إذ سيتعرَّض لهجوم كبير وهستيري. ووفق نظرية إدارة الذعر، فإن لهذا تفسيرا جيدا، وهو ببساطة أنك حين تنتقد القيمة الجماعية الكبرى، الثقافية أو الدينية التي تناشد بها الجماعة وقت الأزمات والرعب، فإنك إنما تهاجم وسيلتهم الوحيدة التي يتجاوزون بها قلقهم من الموت، وهو السبب نفسه الذي يجعل من الصعب لدى كثير من الناس تغيير قناعاتهم الثقافية والدينية، لأنها في جانبها العميق ضرورة نفسية يتجاوز بها الإنسان خوفه من الفناء والموت. والأمر نفسه حين تُسخِّف من قيمة مرء ما وقت الأزمات، مثل أن تنتقد مقولات مغلوطة لأحد الأفراد الأطباء، فإنه سيهاجمك هجوما شديدا، لأن نقدك لما يعتقد أنه يجعله مهما في هذه الحياة إنما هو استدعاء غير مباشر للموت، لأنه صار شخصا لا قيمة لبقائه على قيد الحياة أساسا(19).
الدراسات حول قلق الموت تُظهِر توزيعا جغرافيا متباينا بين الشعوب، فبعض الثقافات يُشكِّل لها الموت هاجسا أكثر من بعض
وقد لاحظ عدد من الدراسات التي بُنيت على نظرية إدارة الذعر والرعب عددا من العلاقات كالآتي: استحضار الناس للموت وقت الأزمات يجعلهم أكثر تركيزا واحترافا في مهنهم ووظائفهم التي يُتقنونها، فالسائق يصير أكثر احترافية أثناء القيادة، والرياضي يُحرز نقاطا أعلى ونحوه. أيضا لُوحِظ أن الناس حين يستحضرون الموت بصورة واعية فإنهم يُركِّزون أكثر على مظهرهم ونشاطهم وشبابهم وصحتهم، وهكذا فقد تجد العديد من النساء يتزيّنَّ أكثر من الأوقات السابقة، ويتمرّن الشباب تمارين رياضية على غير العادة، ويستخدم الناس أدوات صحية ووقائية أكثر. ويبدأ الناس في وقت الذعر في البحث عن إقامة علاقات جادة أكثر وأقرب وأعمق. أما الوجه المقابل لهذا كله، فالناس يصيرون أكثر تعصبا وتحيزا لمعتقداتهم الثقافية ويرون أنفسهم أفضل من باقي الجماعات، ويلتفون تحت قادة سياسيين يؤكدون أهميتهم واستثنائيتهم حتى لو فعلوا ذلك بطريقة عنصرية(20).
يجدر الذكر أن الدراسات حول قلق الموت تُظهِر توزيعا جغرافيا متباينا بين الشعوب، فبعض الثقافات يُشكِّل لها الموت هاجسا أكثر من بعض.* وحتى هذه اللحظة يُدشَّن عدد غير قليل من الأبحاث الواعدة التي تستند إلى مقاييس قلق الموت ونظرية إدارة الذعر (TMT).