أخبرني صديق ذات يوم على نحو من الدعابة أنه وأصدقاءه فعلوا مقلبًا برفقائهم في مقيل تخزين في صنعاء ذات يوم، إذ قاموا بالتوزيع على أربعة عشر من الموجودين حبوبًا مسهّلة على أنها إحدى أنواع المنشطات الجنسية الواصلة لليمن للتو. في اليوم التالي وقفوا يستمعون لملاحم بطولية لا يأتي بها إلاّ بطل مغوار أو كاذب زوّار، اللهم إلاّ واحدًا همس له بوجل " ياخي أنا بطني مشت."
كان يقهقه وهو يتذكر هذا الحدث وأنا أتنقّل بذاكرتي لعشرات المواقف التي كان يستدعي فيها رجال أمامي أو أمام غيري قدرات ليستْ فيهم أو مواقف لم تحدث، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بامرأة، امرأة جميلة أو ناجحة أو ذات نسب هي محط إعجاب الكثيرين فيجد أنه إن ألصق نفسه بموقف تكون هي فيه في مبادلته إعجابًا أو علاقةً أو حتى تلميحًا أو حتى بحصوله على رقم هاتفها، فإنه قد أضاف لنفسه رصيدًا من رجولة، وإن كانت من رمل تذروه الرياح.
رأيتُ قبل أسابيع أحدَهم يضع صورة لفنانة يمنية؛ لا أعرفها، كان يهنئها بعيد ميلادها، وبعد وصلة من التهاني الحارة والمغازلة الركيكة كتب معلومة لم أعرف لها سببًا، قال بالمناسبة لقد حصلتُ على رقمها مؤخرًا، بعثتُ صورة عن المنشور لأصدقاء أثق برأيهم دون أن أعلق بشيء وكانت السمة التي لاحظها الجميع هو هذا اللمز، وبالمثل كل من علق عليه شاركه هذا الاحتفاء بحصوله على رقم امرأة ربما لا تعرف من الأساس بوجوده على وجه الأرض.
بعض الرجال لا يعرفون شيئًا عن المنطق عندما يتعلق الأمر بتزييف وعيهم نحو امرأة، خاصة وإن كانتْ فرصة حصوله عليها مستحيلة، أو الفوارق بينهما لا يمكن بحال ردمها، أو لأنها ليست مهتمة به من الأساس، لا يألوا جهدًا أن يقدم نفسه للناس دائمًا على هيئة الفذ صاحب الانجازات الخرافية، والمعشوق الذي لا تبلى النسوة من حوله، ولكل امرأة في طريقه باعتباره ذا الأيادي البيضاء، أنه المنقذ، المعجب الذي كافأتها الأقدار به، والعاشق الولهان الذي لن تحصل على محبة مثله، فإذا واجهته بالرفض جن جنونه واختلق عليها القصص، وإن طالبته بالجديّة سلّم قدميه للريح.
والحقيقة أن واحدة من أشهر قصص الحب العربية التي يتداولها الناس ويغدقون لأجلها لواعج الشجن ماهي إلاّ تجسيد لهذه الفكرة، فكرة هوس الرجل بامرأة لم يعد/ لم يكن حصوله عليها ممكنًا، فكرة امتلاكها ولو ضمنيًا ونسبها له ولو شكليًا، عمر الشريف الذي يرتبط اسمه بسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، ذهب يلاحق أحلامه بالنجومية العالمية بعد أن تزوجها تاركًا المرأة التي قال في مذكراته إنها حب عمره خلف ظهره، قضتْ فاتن خمسة عشر عام تنتظر زوجًا أقام في فترة زواجهما علاقات عاطفية مع ممثلات أخريات أمثال انجريد برغمان، صوفيا لورين، أنوك إيميه باربرا سترايسند وآفا جاردنر، حتى أنه كان في مقابلة له قد حكى عن قصة له مع بائعة هوى إيطالية اشترى لها 25 طنًا من الورود في روما عام 1966 وقت أن كان متزوجًا من فاتن.. ثم بعد أن فرغ من كل هذا عاد متقمصًا دور العاشق المعذّب الذي لم يستطع لا الوقت ولا الشهرة أن ينسياه سيدة قلبه التي تزوجتْ غيره، والحقيقة أن العقلية العربية تحب هذا النوع من الصور وتتماهى معها، صورة الرجولة المنكسرة لأجل ذكرى أمرأة، حتى وإن كان ذلك على حساب اعتبارات أهم ينبغي احترامها، الشريف بطريقة ما كان قد توهّم تفوقه الذي منحته إياه الشهرة أو صفة الزوج التي كان عليها ذات يوم وراح يتفانى في محو حقيقة حياة أخرى كاملة كانت قد عاشتها محبوبته مع رجل آخر منحها 40 عامًا زيجة مستقرة وعلاقة سويّة استحقها كليهما.
منذ 1999 أصبح كل ما سبق ذكره تحت مجهر عالمي النفس الامريكيين ديفيد دانينغ وجاستن كروجر عندما قاما بشرح ظاهرة التفوق الوهمي، التأثير الذي حمل اسمهما وراج كثيرًا بعد حادثة السرقة الشهيرة لمكارثر ويلر التي قام بها بعد أن دهن وجهه بعصير الليمون بعد أن علم أن بالإمكان صناعة حبر سحري من عصيرالليمون وظن في المقابل انه لو وضعه على وجهه ستختفي ملامحه أيضًا ولن تتعرف عليه الكاميرات، لقد كان واثقًا من غبائه وجهله للدرجة التي حفّزت هاذين العالمين على فتح باب النقاش عن هذه المعضلة النفسية التي تحذو بأحدهم إلى مثل هذا التحيز لذاته بإعطائها كفاءة أو قيمة أعلى من واقعها يجعلها تصاب بالعمه عن العيوب والأخطاء والقيم والأخلاقيات، والأنكى من كل هذا يجعلها تقزّم الواقع في كفة الأنا الواهمة.
مثلما غسل مكارثر الذي ألقي عليه القبض في يومها وجهه بعصير الليمون بايعاز من أفكاره المدلّسة؛ يغسل الكثير من الذكور في مجتمعنا وجوههم بالبول، في عدن نقول عن الشخص الهلاس (كثير الكذب) والزناط ( كثير التباهي) والروفل (المراوغ والفج)؛ "فلان وجهه مغسول بالبول"، هذه طريقتنا الدقيقة في تعريف الوقحين، خاصة أولئك الذين لا يفهمون أن " لا تعني لا"..
هذا الشعار الذي صلبتْ عوده لاحقًا قوانين وضعية في بلدان كثيرة كألمانيا، التي أقرتْ في 2016 قانونًا ينص على أن التحرش الجنسي يصنف للمرة الأولى كجنحة جنائية وأنه لم يعد من الضروري أن يبدي أو تبدي الضحية مقاومة جسدية لاثبات الفعل، فإن الرفض الشفهي بتطبيق مبدأ "لا تعني لا" يكفي لتصنيف الفعل الجنسي بغير التراضي سواء كان لفظيًا أو باللمس أو الإيلاج على أنه جريمة جنسية يعاقب عليها بالحبس والغرامات المالية.
ليس هذا فقط، فالقانون الألماني يجرّم التعقّب والمطاردة والمضايقات حتى لو لم يترتب عليها أذىً جنسي أو جسدي، فإن إصرار أحدهم على التواصل بغير رغبة الطرف الآخر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال الاتصالات الهاتفية المستمرة، أو ترك كميات من الرسائل على البريد الهاتفي أو الالكتروني أو المضايقة في وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى تقديم الهدايا غير المرغوب فيها او التجسس على برنامج أحدهم اليومي أو الدائرة المحيطة به، بالأخص إذا ترافقت المطاردة مع التهديد أو تشويه السمعة أو الإهانة أو الإجبارعلى ترك مكان الإقامة أو العمل فلا مناص من المواجهة تحت طائلة القانون الذي لم يعد متسامحًا أبدًا مع هكذا أفعال.
من الجدير الإشارة إلى أن هذه المبادئ تبلورتْ من حركات رافضة صغيرة كبرتْ بمرور الوقت وبنضال الكثير من الحقوقيين والضحايا الذين كسروا حاجز الخوف والمحظور، فالشعار الذي نعرفه جميعنا اليوم كان قد أطلقه طلبة كنديون في أوائل التسعينات في حملة لمناهضة العنف الجنسي والاغتصاب، ورغم الجدل الدائر حول الشعار والميل لاستبداله بعبارة "فقط نعم تعني نعم"، لمحاولة فك الحصارعن أكثر الأفكار رواجًا في الثقافات أجمع، فكرة " يتمنّعن وهن راغبات"، فإن الفكرة تتدحرج اليوم ككرة ثلج ضخمة تجرف في طريقها وجوه كثيرة تساقطتْ مع كل صرخة لفتاة أو سيدة قالت بوضوح "أنا أيضًا" وهو الوسم الذي قرأنا ونقرأ في مضمونة اعترافات لنساء تعرضن للتحرش في جنوح عام مهم نحو تفنيد التحرّش وفضح المتحرشين وحماية النساء على وجه الخصوص من ابتزاز متوهمي التفوق.
كل هذه الجرائم التي حدثتْ وتحدث ولو جزئيًا تحت بند سوء الفهم لرفض المرأة لرجل، هي حصيلة فلسفات كثيرة عظّمت من غريزة الرجل التي تجعل منه صائد الغزال الشارد وطفقت تحث المرأة على " تلويعه" لإذكاء هذه الرغبة أكثر، إذ لن يعرف الرجل قيمتها إلاّ بعد أن تلعب دور " الثقيلة "، حتى اختلط الحابل بالنابل وما عاد أحدهم يعرف هل الغزالة تلوّعه أم ترفضه..
هل تتذكرون تلك الرسوم الكريكاتيرية التي تصف الفروق بين المرأة والرجل والتي يقف فيها رجل نحيل أمام المرآة فيرى نفسه مفتول العضلات بينما تقف امرأة رشيقة أمامها فتنعكس لها صورتها سمينة وبشعة، هذه الإضاءة ولسوء الحظ تدعمها كل الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع " الفروقات بين الإناث والذكور من حيث الإحساس ـ تقدير الذات" والتي خلصت إلى أن تقدير الذات يتناسب طرديًا مع العمر وهو أعلى بكثير عند الرجل منه عند المرأة، هذه الحقيقية العلمية تنسحب على أكثر من فضاء، ولها أسبابها المتعلقة بالسيادة والهيمنة التاريخية للذكورة والتي عززتها الأدبيات المكرسة للتفوق والقوّة في الوعي الاجتماعي والديني؛ تتجلّى بوضوح عند تعرض الرجل للرفض من المرأة، الرفض سواء كان رفضًا للبدء في العلاقة أو الاستمرار فيها، يعني بالنسبة للرجل قدحًا في الرجولة، ومساسًا بالقيمة العالية للذات، فتبدأ رحلته مع محو هذا العار الذي لحق به بطرق كثيرة، معظمها "إكليشية" أكيدة أن كثير من النساء ستؤكد عليها، فإما أن يرفض هو الآخر هذا الرفض ويمشي في زقاق طويل من " الترفيس" لاعتقاده أن المرأة لم ترفضه من تلقاء نفسها وأنه لابد من أن هناك أسبابًا قهرية حملتها على ذلك..
أو قد يستثمر كل ما قد يكون حصل عليه من نقاط ضعفها ويمارس ضغوطه عليها من خلالها فإذا كانت أم أولاده فسيستخدم سلاح الحضانة ضدها، وإذا كان رئيسها في العمل أو من يعولها سيشهر سيف الخسارة المالية في وجهها، وإن كانت علاقتها بأهلها متوترة سيستخدمهم كورقة ضغط وإن كان مجتمعهم مغلقًا سيلوّح بكارت الفضيحة والتشهير وستبدأ معه رحلة مضنية من سلسلة الابتزاز.
أو ربما يميل إلى أخذ زمام هذا الرفض منها ويبدأ في الإعلان عن سقمه أو اكتفائه هو منها، وأنه هو من تركها إما لسوء أخلاقها أو لعدم أهليتها، سيقول في هجائها معلقاته العشر وسيستميت لإثبات أنها بضاعة معطوبة حتى لا يفكر أحدهم في الاقتراب منها لاحقًا.
ولعله يكفي أن تطبع على متصفح البحث جوجل عبارة "رفضته فقتلها" لتطالع عشرات بل مئات الحالات التي توسّعت فيها آثار هذه "الرجولة السامة" إلى ماهو أبعد من عدم الإقرار بالرفض، فيمتد ليدخل في نطاق العنف فيؤذي الرجل إحداهن جسديًا أو ينهي حياتها. ربما لم تكن آخر هذه الحوادث قصة الفتاة الجزائرية شيماء التي رفضت الزواج من مغتصبها فقام بقتلها وحرق جثتها.
كسر هذه الحلقة وإن بدأ في المجتمعات المتحضّرة من الحركات النسوية والحقوقية التي أدارت العجلة بالضغط على زر القانون فإن بإمكاننا أن نحصّن نحن أنفسنا في مجتمعاتنا البائسة بالشجاعة، الشجاعة وحدها من يمكنها أن تحملك على الرفض وعلى الانتصار لكرامتك وذاتك مهما كانت الأثمان التي ستدفعينها باهضة، قفي طويلة وشامخة، كوني قوية وقولي "لا" بوضوح، لا للتحرش، لا للعلاقات السامة، لا للابتزاز، لا للامتهان، لا لأي وضع أو شخص لا يناسبك، في مجتمعنا سيكون عليك أن تنتصري لنفسك بنفسك، إلى أن تحدث المعجزات ويبدأ الناس في التمييز بين الضحية والجاني، وربما تصحو حتى ذلك الحين الحركات النسوية من غيبوبة "دعي شعرك يتنفس " وحرية "نشر الملابس الداخلية" وتبدأ في تبني مسودات قوانين حقيقية وملحّة تحرك المياة الراكدة وتبدأ في دحرجة كرات الثلج.