حكاية من المانيا

سناء مبارك
الاربعاء ، ٢٨ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ١١:١٢ مساءً
مشاركة

في المستشفى حيث أعمل، لدينا أكواد نفتح بها غرفة الملابس كل صباح، تأخذ ملابس العمل، ثم في آخر النهار تضعها في "كونتين" كبير في قبو المستشفى يحتوي على ثياب جميع العمّال..

حيث يتم غسلها وتعقيمها ليرتديها الأطباء والممرضون وباقي العمال في اليوم التالي..

انت بالضرورة تعرف القياس واللون الذي ستختاره وفي أي رف تقع القطعة التي تريدها وهكذا يفعل كل من لديه نفس قياساتك من بين ٥٠٠ عامل في ثالث اكبر مستشفى في المقاطعة..

انت سترتدي نفس المقاس ولكن ليس بالضرورة نفس القطعة..

ذات يوم وعلى عجالة نسيتُ نقودًا في جيب البنطلون، كان المبلغ "محرزًا" إلى حد ما، وضعتُه بين كومة الغيارات ولم اتنبّه لهذه الهفوة إلاّ في المنزل، وعليه وفق مبادئ التفاضل والتكامل والاحتمالات وجدتُ أن احتمالية أن اعثر عليه مجددًا تكاد تكون صفرية.

واستعوضتُ الله فيما نسيتُ وتمنيتُ أن يجد النقود من يحتاجها، مع إنّ الجميع لديه ما يكفي.

بعد يومين كنتُ قد نسيتُ القصة كلّها وأردتُ أن أذهب لتناول طعام الغداء، سألتُ الزملاء عمن يريد فقالوا أن زميلنا فلان كان يبحث عن مرافق أيضًا، بحثتُ عنه ولم أجده فقررتُ أن أذهب لوحدي.

وأنا في منتصف الطريق وجدتُه وعرضتُ عليه أن نذهب لنأكل سويّه، قال إنه بحاجة للتحدث مع موظف الاستقبال وسألني إن كنتُ على عجالة أم استطيع الانتظار معه، كان من اللياقة أن انتظره ريثما يتم حديثه معهم، عاد من بعيد وقد بدى عليه بعض التوتر، ودون أن اسأل أخبرني أنه وجد اليوم صباحًا نقودًا في جيب البنطلون، وذهب ليستعلم ان كان أحدهم قد أبلغ عنها..

لكن لا أحد. سألته ان كان مقاس بنطلونه بالقياس الذي ارتدي مثله، استغرب لوهلة سؤالي وعندما أجاب بالإيجاب كان عليّ أن أعرف أنها نقودي رُدّت إليّ فيما يشبه المعجزة.

دون أن يخبرني عن المبلغ قلتُ له إني قبل يومين نسيتُ نقودي في جيب البنطلون الذي هو نفس مقاسه واخبرته عن المبلغ والفئة.

كدنا الإثنين لا نصدق هذه المصادفة العجيبة، أن تمر النقود بكل هذه المحطات لترسو من جديد في جيبي، الغسيل، ثم يومين لا أعلم أين كانت، لتصل إلى زميل يعمل في قسم الأطفال دون غيره من بين عشرات الأقسام في المستشفى الضخم، ثم يقرر القدر أن الشخص نفسه يريد الوجهة ذاتها التي أريدها ويفتح الموضوع الذي يخصني أنا بالتحديد.

ربما لو رأيتُ هذا المشهد في فيلم سأظن أنها مبالغات او شطحات من خيال أحدهم، ولكن هذا ما حدث حقًا.

هذه الحياة مدهشة وأجمل مافيها هذه الدروس الصغيرة التي تخبرنا أن المستحيل مجرد قناعة نبرر بها رغبتنا في الاستسلام، وأن ما هو لك سيعود إليك مهما ضل الطريق لك، وأن كل خسارة تصيبك أو نفع يخصك ماهي إلاّ ترتيبات لمنفعة من نوع ما، أو درس يقوي عودك ويجعلك أكثر طمأنينة ومقدرة على التمايل مع رياح الفقد الماضية، وأكثر جهوزية لموسم الغيث القادم، وربما أقدر على تحمّل جفاف الانتظار الآني.