أخبرنا القرآن الكريم بحيازة مالك الحكمة لخيرات لا تحصى، فقال تعالى: {ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}، حيث استخدم كلمة (خيرا) وهي نكرة تفيد الاستغراق وزاد بتمييزها بكلمة (كثيرا)، فلماذا يحصل الحكيم على هذه الخيرات الكثيرة؟. لما كان أجمع تعريفات الحكمة هو وضع الشيء في محله، سواء في الفهم أو التنزيل أو التطبيق؛ فإن الحكيم يصير موفقا في مكنوناته ومشاعره ومسددا في أقواله وأفعاله، بل يمكن القول بأنه يصير أقرب إلى الملهم، ومن ثم فإن فاعليته العبادية في محراب الحياة تصير عالية جدا ليحصد ما لا يحصيه إلا الله من الأجور الدنيوية والأخروية.
وفي هذا السياق لا تختلط على الحكيم المفاهيم ولا تلتبس عليه الطرق؛ فهو في تعامله مع التراث يفرق بصورة حاسمة بين الاتباع المنهجي وبين التقليد الفروعي ولا يخلط بين الإبداع والابتداع، ويميز في تعامله مع الغرب بين التفاعل الحضاري وبين الغزو الثقافي؛ فيقتبس كل ما يساعده على خدمة المقاصد دون أن يفرط بأدنى مفردة من مكونات ولوازم هويته المستقلة. وقبل هذا فإنه لا يمكن أن يمارس السلبية تحت عنوان الإيمان بالقدر ولا يقبل بالعجز تحت مسمى الزهد، ولن تجده يشق وحدة الجماعة بدعوى الحرية أو يهدر كرامته وشخصيته المتميزة تحت مسمى الوحدة!
ويدرك الحكيم تماماً أدق الأحاسيس الشعورية، إذ أنه يأخذ بكافة الأسباب اللازمة لتحقيق أهدافه لكنه لا يسمح لها بالنفاذ إلى قلبه بتاتا، ولا يمكن أن يسمح للكبر بأن يلج إلى جوانحه تحت دعوى الاعتزاز بالذات أو يسقط في هوة الذل تحت عنوان التواضع، وهو يفرق تماما بين النقد الذاتي المطلوب وبين جلد الذات المرفوض، ويميز بين السلبية المذمومة وبين الرضى المحمود، إذ يحرص على استكمال الأخذ بالأسباب مع مراجعة أفكاره وممارساته ثم يرضى بما قسم له الله من نتائج، بمعنى أنه يبصر بمنظار فقهه الخيط الرفيع الذي يفصل بين التوكل والتواكل!
ونختم بالإشارة إلى أن الحكمة منزلة تفوق الفقه، فالفقيه يمتلك من العلم والإخلاص ما يبوئه مكانة من يعي دينه عقيدة وشريعة وأخلاقا ويفقه سنن الله في الأنفس والآفاق، ويفهم واقعه بماضيه وحاضره، والفقه بمعناه هذا منزلة رفيعة استحق صاحبها الخير من الله كما قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، ذلك أن الفقيه بحق يعي مقاصد النصوص الشرعية وعلى ضوئها يستنبط الوسائل والأساليب الأكثر نجاعةً لكل الظروف والأحوال، ومن باب أولى أنه يعي الأصول والكليات فينسج على منوالها الفروع والجزئيات بما يضمن جلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم. ومع أن الفقيه لا يكون فقيها إلا إذا جمع بين فقهي الواجب والواقع، إلا أن الحكيم يفوقه في التعمق بالواقع والخبرة بأدق أحوال الناس وتفاصيل الحياة وطرائق التفاعل معها. ومن ثم فإن الحكيم يجمع بين مواصفات الفقيه والخبير، فيرتفع إلى مقام الحكمة بجناحي الفقه والخبرة: {ومن يُؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.