لا يختلف عاقلان حول أن ما حدث في ١١ فبراير ٢٠١١، كان ردة فعل مشروعة على الواقع البائس الذي كان الشعب اليمني يتمرغ في أوحاله، بفعل من السياسات الحمقاء التي اجترحها النظام السابق في ذروة غروره وعنجهيته، وأنه عمل مبرر وفق كل الشرائع والقوانين نتيجة الفساد الذي ضرب أطنابه في أعماق الوطن وشاع أفقيا وسط الشعب اليمني حتى صار ثقافة متبعة ووصلت آثاره إلى كافة القطاعات والطبقات والمستويات، ولم يكد يسلم من شظاياه أحد!
وبغض النظر عن ما حدث في ليلة ١١ فبراير، وهل كان ثورة أم انتفاضة أم حراكا؛ فقد حدث بصورة تلقائية ولم يقف خلفه طرف سياسي بعينه؛ إذ كانت المظالم الكثيرة هي الدافع الأساسي إليه، وأذكته ردود الأفعال العنيفة من قبل قوات النظام الحاكم آنذاك، حيث حاول قمع التحرك الشبابي بكل ما يملك من سطوة وقسوة، لكن منظر الدماء التي سالت والأشلاء التي تناثرت من أجسام المتظاهرين والمعتصمين السلميين جلبت المزيد من الدماء إلى شرايين الثورة، وكانت ذروة الجريمة في جمعة الكرامة التي أريقت فيها دماء العشرات من شباب في عمر الزهور وكانوا يواجهون رصاص القناصين بإيمان قوي وثبات راسخ؛ مما دفع القناصة لإطلاق النار على رؤوسهم أو صدورهم وكأنهم يريدون إطفاء جذوة الإيمان واقتلاع جذور اليقين! لكن الذي حدث هو العكس تماما، فقد اندفع آلاف الثوار إلى ساحات التغيير والحرية، وظل العقلاء يتحكمون بانفعالات الجموحين منهم ويحولون دون الاندفاع نحو الردود العنيفة، محافظين على سلمية المسيرات، مما أثر على أعداد غير قليلة من رموز الجيش والأمن وقادة العمل السياسي والديبلوماسي والذين انضموا إلى قافلة الثورة.
لقد أثبتت الوقائع بأن ثورة فبراير حينما هزت جذوع أشجار الشعب اليمني؛ فإنها قد ساقطت رطبا جَنيا، حيث أظهرت خلال هذا الشعب الكريمة، والتي طمرتها أطباق من الفقر والجهل والظلم خلال عقود عديدة من الحكم الذي مارس في حكمه ثلاثية الظلم والفشل والفساد. لقد أظهر الظلم والبطش والجبروت ما يمتلك الشعب اليمني من ثروة ثاوية في أعماقه، من خلائق الحرية والكرامة والإباء ومن قيم القوة والشجاعة والاستبسال، حيث كان الشباب يتسابقون على مواجهة الدبابات والمصفحات بصدورهم العارية إلا من الإيمان بأن الحياة والموت بيد الله وأن الموت في سبيل حياة المجتمع شهادة تضمن لصاحبها غفران الذنوب ووفرة الأجور ومرافقة الأنبياء والصديقين والصالحين في جنان عرضها السماوات والأرض. وأظهرت ثورة فبراير كم يمتلك الشعب اليمني من رصيد انضباطي في مقابل الفوضى التي شاعت خلال عقود الحكم العسكري الفاسد، حيث انتظم مئات الآلاف في صفوف منضبطة، ولم تستخفها الاستفزازات ولم ينجح القمع في دفعها لفقدان رباطة جأشها أو في التفريط بسلميتها، وقدم الثوار نماذج رائعة في الترتيب والانسجام وفي المحافظة على النظافة والجمال حيث تزينت الساحات العامة بلوحات فنية جميلة، وتنافس الثوار في خدمة الشأن العام وفي التكافل والتراحم، والانصهار في بوتقة الوطن الواحد الذي تذوب فيه الروابط القبلية والأواصر المذهبية والعصبيات المناطقية والتنافسات الحزبية المحمومة، ليدور الجميع في فلك الوطن الذي يتسع لكافة أبنائه مهما كانت أفكارهم وأحزابهم ومهما كانت الاتجاهات والجهات التي ينحدرون منها !
وأظهرت ثورة فبراير عظمة المرأة اليمنية التي خرجت بالملايين في صفوف منظمة ودون أن تفرط بذرة واحدة من كرامتها وعفافها ومكانتها كأنثى، حيث كانت أدوارها مكملة لأدوار شقيقها الرجل، وظهر صبرها واستبسالها حينما تضرج أبناؤها وإخوانها وآباؤها بدمائهم واعتلوا معراج الشهادة، فقد ظهرت مئات الخنساوات اللاتي استقبلن جثامين فلذات أكبادهن بزغاريد الفرح ونثر الزهور وتوزيع الحلويات، في صور زاهية من أعراس الشهادة ومهرجانات البطولة والتضحية والفداء!
لقد أنعشت ثورة فبراير آمال اليمنيين في الحرية والكرامة وفي المساواة والوحدة وفي المواطنة المتساوية والعيش الكريم، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف قبض الثوار على الجمر وساروا حفاة في حقول من الشوك، ومارسوا قدرا من الحكمة واتسموا بقدر هائل من التسامح، حتى أنهم لم يكتفوا بالإبقاء على قادة النظام السابق بل قبلوا بإعطاء رموزهم الحصانة من المساءلة ونصف الحكومة الانتقالية، وكان أملهم من ذلك إنهاء الثارات السياسية والتفرغ تحت راية المواطنة المتساوية لبناء الوطن والنهوض بالشعب الذي يستحق السلام والرفاهية. لكن المتضررين من هذه الثورة والذين لا يمكنهم العيش إلا في ظلمات التخلف ودياجير الفساد، وأغلبهم من سدنة النظام السابق ودهاقنة العصبية المناطقية وكهنة الطائفية والسلالية، تكالبوا ضد شباب فبراير وحركاته الثورية. وبتوجيه وتمويل وتأليب من أنظمة ومنظمات تتربص بالوطن الدوائر، تم تجميع حراس التخلف وتكتيل التيارات العصبوية في منظومة واحدة شكلت ثورة مضادة، حيث أجادت تبادل الأدوار وتكامل المؤامرات، وبسبب الثقوب التي وجدت في أسوار الثوار، نتيجة اختلافاتهم وغرور بعضهم وقلة خبرتهم وبراءتهم الساذجة، تم نفاذ الثورة المضادة إلى ساحات الثورة!
وبلغت الثورة المضادة ذروتها بتسليم النظام السابق مؤسسات الدولة وأسلحته وإمكاناته للأقلية الحوثية التي انقلبت على كل ما يمتلك اليمنيون من شرعية وطنية وتوافقات سياسية وقيم دينية وأعراف اجتماعية، فاتجه الانقلابيون لتأديب ثوار فبراير، حيث استشهد الآلاف منهم في ساحات الوغى وفي مختطفات التعذيب، وفر أمثالهم إلى منافي الغربة ومنتزحات الوجع!
واستحال الربيع اليمني الزاهي حينئذ إلى شتاء بارد تضربه تيارات من القمع العنيف ويعج بذئاب الغدر ودببة الافتراس، وانبلجت معمعة الثورة المضادة عن شتاء طائفي سلالي خبيث في صنعاء وعن خريف مناطقي قروي مقيت في عدن، لينحصر ثوار فبراير بين مطرقة المناطقيين في الجنوب وسندان الطائفيين في الشمال، وحاولوا وما يزالون مقاومة انقلابي صنعاء وعدن على الشرعية وعلى آمال اليمنيين في الانعتاق من أَسْر التخلف وإقامة الدولة المدنية التي تحتضن جميع اليمنيين.
وجرّت الثورة المضادة الكثير من الخيبات، وصنعت للشعب ما لا يحصى من المآسي والأحزان، ولم تنجح إلا في اجتراح المآتم وملئ التوابيت بعشرات الآلاف من جثامين الأحرار وجثث أبنائها الذين اقتادتهم إلى المحارق بخدع دهاقنة السياسة وأكاذيب دجاجلة الدين وتزيين سحرة الإعلام!
لقد نجحت الثورة المضادة إلى حد كبير في إحالة الربيع اليمني إلى شتاء قارس، وأحالت أحلام الجماهير بحياة طيبة إلى كوابيس تتمنى أن تنتبه منها ولو عادت إلى ما كانت عليه قبل الثورة، لدرجة أن بعض الطيبين ندموا على خروجهم إلى ساحات الحرية والتغيير بل واندفع بعضهم لهجاء فبراير والتبرء منها، لكن الثورة المضادة قد كسبت جولة ولم تكسب المعركة، وقد قضت سنن الله بأن الزبد يذهب جفاء ويبقى في الأرض ما ينفع الناس، غير أن الأمر يحتاج من ثوار فبراير وأحرار اليمن إلى مراجعات عميقة للمسيرة السابقة؛ حتى يتم تقوية مناطق الضعف واستدراك نواحي النقص، ويتم تمتين العرى الضعيفة واستيفاء الشروط المنقوصة، ولا يزال كل مؤمن يوقن بأن العاقبة للمتقين.