طوال 15 عاما، منذ بدأ استيقاظ وعيي بالحياة، ظللت أميل لكل ما هو شاذ وغريب وخارج عن المألوف في كل شيء. كنت أرى أن الإيمان بالأفكار العادية دليل عقل بسيط وتفكير واهٍ، وأن العبقرية تقتضي الشذوذ والتفكير المختلف دوما، بصرف النظر عن ماهية هذا الاختلاف وقيمته.
لم أكن وحدي من لديه هذا الطبع، شباب كثير، من أبناء الجيل الحديث، ممن لديهم علاقة بعوالم المعرفة، يجدون ذواتهم في اعتناق كل فكرة صادمة، يستمدون منها إحساسهم بذواتهم وتميّزهم عن أبناء جنسهم. كنت عبداً لكل فكرة مصاغة بطريقة لافتة، مهما كانت جدواها الواقعية. فللأدب والفلسفة تلك القدرة الرهيبة على شرعنة كل الأفكار المختلّة، ومنحها صبغة منطقية ساحرة. ومنها تلك الأفكار المناهضة للزواج، كما لو أنه مصدر تهديد للإنسان وحريته.
ليس الزواج نقيضاً للحرية، بل لا يوجد أي رابط بين الفكرتين، مثلما أن العزوبية ليست مصدر حرية أيضاً. لا أدري كيف تسرّبت تلك الأفكار وترسّخت كما لو أنها مسلَّمات يتوجّب الإذعان لها دون نقاش. أعترف الآن أن كل مخاوفي من الزواج كانت وهمية، في الواقع هو حدث طبيعي جداً، إضافة رائعة ومبهجة. الزواج فكرة تطابق الحياة تماماً، إنه بذاته محايد، وأنت من تملأه بالمعنى.
إذا كنت شخصاً جيداً سيكون الزواج - بالنسبة لك - أكثر جودة، إذا كنت مشوشا بحياتك سيكون الزواج حدثاً يتلاشى بريقه بسرعة، وسوف تعود إلى الحالة المرتبكة نفسها قبل زواجك. هذا ليس استنتاجا مبكرا تحت تأثير النشوة الزمنية المؤقتة، وأيام ما بعد الزواج، بل قناعة نابعة من استبطان لحياتي حتى ما بعد عشرات السنين القادمة. الزواج فعل، تجربة جديدة، وهو أفضل من اللا فعل.
ولطالما آمنت في الحياة بشكل عام أن الفعل سلوك أكثر جدوى من العطالة. أكثر فاعلية من التردد والبقاء حبيس مخاوفك الزائفة. لم أكن أنتظر من الزواج شيئاً، لم أتوقع منه أن يغيّر عالمي كليّاً، تعاملت معه كحدث عادي، فقط كان كل هدفي ألا يخصم من عوالمي أو يربكها، ولهذا كانت كل لمسة أضافها بحياتي شيئا لطيفا، انقلابا داخليا يخلّصك من شتات كبير، ويهبك محفزا ذهنيا أكثر موثوقية.
والآن أستطيع القول، وكاستنتاج مبكّر أيضاً، إن النساء أكثر لطفاً منا -نحن الرجال الأنانيين- إننا نفكّر بأنفسنا، ونخشى فقدان مكاسبنا، ونبحث عن راحتنا دون مراعاة لحق الآخر فيك. فيما تجد المرأة تبذل الجزء الأكبر من تفكيرها بك وبأي طريقة تسعدك. بل إنها على استعداد ذهني ونفسي كامل للتفاوض معك على كل شيء، وبما يجعلك مبسوطاً منها. زوجتك هي انعكاس دقيق لصورتها في ذهنك، وكل رجل يحظى في الحياة بامرأة تتناسب مع استحقاقه. آمنت أن كل رجل يشكو من امرأته هو لا يستحق تلك التي يتخيّلها، ما دام غير قادر على صناعة انسجامه العال مع تلك التي بين يديه.
أما مصدر تلك البلبلة حول الزواج فهو ينشأ من مغالطة الإنسان لنفسه. يلجأ البشر إلى موارة هشاشتهم الداخلية وارتباكاتهم النابعة من ذواتهم بإحالتها لأسباب خارجية، منها الزواج. يقول أحدهم إنه يعيش واقعه الملخبط لكونه متزوجا، يفسِّرون واقعهم المختلّ ونواقصهم بأسباب لا علاقة لها بالنتائج. ثم يشعرون بالراحة لكونهم قد أوهموا أنفسهم بامتلاكهم شروحاً لما هم عليه. فيما الحقيقة أنهم لم يكونوا يفهموا أنفسهم، لا قبل الزواج ولا بعده. لكن الواقع يصفعهم مرّة ثانية، وتفشل كل تلك التبريرات في إقناعهم بصوابية تفسيراتهم.
يفشلون وينتصر النظام الطبيعي. لقد صرت مؤمناً أكثر أن الطبيعة أقوى من أي فلسفة، النظام الطبيعي أكثر قدرة على مقاومة الأفكار المختلّة. وأن العقل البشري منذ آلاف السنين، وهو يعمل وينتج الأفكار، يبدع ويزيغ، يخضع لقواعد المنطق أو يتجاوزها، يتقبّل النظام العام أو يرفضه؛ لكنّه في كل حالاته لا يستطيع فرض سوى ما تقرره الطبيعة الكونية، وأعني فرضه كنظام شامل. وبذلك ظلت كل الأفكار الشاذة تشتغل بمساحة محدودة منذ ما قبل الإغريق حتى اليوم. ليس فيما يخص الزواج، بل في كل المجالات، بما فيها مؤسسة الأسرة..
ومحاولة هدمها عبر تلك الفلسفة اللا إنجابية، وتدمير القواعد الصلبةفي بنية المجتمعات. الخلاصة: بوضوح أكبر، فشل شوبنهاور ونيتشه في تشويش فكرتي عن الزواج، وانتصر علي عزت بيكوفتش والنبي محمد في إقناعي بأن الزواج حدث وجودي يرتبك أكثر، ويجعلك تمضي في الحياة، وطاقتك مركّزة بشكل جيّد.
حتى قلقك يغدو قلقا واضحا وهادفا، بعيدا عن تلك الكوابيس العدمية، والحياة المبعثرة، والعلاقات الفاقدة لليقين. يتهرّب أبناء الجيل الجديد من الزواج، ويميلون إلى العلاقات العابِرة، ليس لكونهم أكثر تطوراً في وعيهم العاطفي أو مستواهم الروحي؛ بل العكس، بسبب هشاشة قدراتهم الذاتية، ضعف خبراتهم المعيشية، وارتفاع مخاوفهم النفسية، بل وشكِّهم العميق بقدرتهم على إدارة حياة مرتّبة تمتاز بالثبات، وحس المسؤولية.
يريدون أن يحصدوا نتائج الحب والحياة المستقرة دون استعداد لدفع كلفتها وتحمّل عبئها، هذه الخفّة لدى الجيل الحديث تذهب لاختلاق تبريرات كثيرة؛ كي يطفئوا صوتهم الداخلي الرافض لهذا النوع من العبث المحسّن، والهشاشة المدّعية للتنوير.
لربّما لن أضيف فكرة مبتكرة لو أسهبت بشرح الموضوع، فيما هناك من فصّل فيه أكثر.. ولكم في كتاب "الحب السائل" للفيلسوف الألماني الشهير: زيجمونت باومان، تفاصيل أكثر وضوحاً. وهذه مجرد فكرة عابرة من أفكار كثيرة يشرح فيها هذه الظاهرة. "كلما زادت سهولة ربط العلاقات وإنهائها ازدادت الهشاشة.
نحن بصدد خسارة المهارات اللازمة لجعل علاقاتنا مستقرّة، فالحب ليس شيئا نعثر عليه، بل نجتهد في صُنعه وإعادة صُنعه. والوصفة الملائمة هي أن نبذل قصارى جهدنا حتى لا يفرّقنا سوى الموت. هي مهمة مُستمرّة ما دمت حياً، وليست شيئاً يمكنك أن تجده أو أن تدمّره أو أن تحصل عليه من خلال موقع للمواعدة".