السبت ، ٢٥ يوليو ٢٠٢٠ الساعة ٠٨:٣٨ مساءً
مشاركة

إحداهن

شعور غريب يراودني في هذه اللحظة, كثملٍ انتهى تواً من التقيؤ ويحاول استعادة وعيه, ثم يجب عليه كتابة نصٍ حقيقيٍ وخارج عن المألوف. أتساءل, تُرى ما هي اللغة التي يجب أن أتحدث بها ؟ وهل سيفهمونني حين تجمعهم بي لحظة الحقيقة ؟ وبما أني التزمت التحفظ بهذا الخروج اللا مألوف حتى أصبحت كنيتي عند أغلبهم أو أغلبهن إن صح التعبير بالثرثار المفضوح أقرر سرد هذه القصة, بمحتواها البسيط ومعتمداً على صيغة سردي البسيطة, على أن أجتهد قدر الإمكان أن يكون اعترافي هذا بلغة يفهمها الجميع. أدرك تماماً ما تعنيه الحقيقة لمشاعرنا, ولهذا سأقصها عليكم بحقيقتها وبكل تفاصيلها, بلا زيادة أو نقصان. ابتدأت الحكاية في زمن يفصلني عن العالم, زمن يختلط بالهموم والوجع كما تذوب قطعة سكر في كوب ماءٍ مغلي. برفقة أحد اصدقائي الذي تجاهل سماع قصتي الموجعة متابعاً الفقرة الأخبارية لقناةٍ عربية, لم أكن أستوعب بعد اهتمام شاب مثله بمتابعة الأخبار الكاذبة حتى أدركت سر متابعته تلك. ثمة جمال حقيقي يجبرك على متابعة النشرة اﻷخبارية لساعة كاملة ﻻ تتخللها فواصل إعلانية بدون كلل أو ملل وهذا ما حصل لصديقي عبدالرحمن عكوش وهو يتابع إحدى القنوات اﻷخبارية بعينين جاحظتين وثغرٍ مفتوح ونيبان بارزان ولعاب ينحدر من لسانه باتجاه ضاحية شفته السفلى : - أنا عايز أشتغل في القناة دي. يقول برتمٍٍ متناهٍٍ وكأن حنجرته أخدود من قاعدة خرسانية صلبه - ااخخخ يتابع، يرتفع ذلك الصوت الجهوري والمرعب تدريجياً كلما تحركت شفتا مذيعة اﻷخبار الجميلة. قال لي صديقي فيما بعد أنه يتمنى ولو لحظة أن يشاهدها في واقعه البائس، ذلك الواقع المكلل بالنساء، النساء ذات اﻷجساد المترهلة والدهون المتراكمة. لفت انتباهي ذهوله، ليشدني برفقته لمتابعة تلك القناة اﻷخبارية يومياً لساعةٍ كاملة. ساعة كاملة يومياً، ولمدة تزيد عن العامين، أتابعها بعينيّ صديقي الجاحظتين وفاهه المفتوح ولعابه المسال، أستعير ابتسامته البشوشة مستبدلاً ابتسامتي المكسورة كلما حان ميعاد تلك النشرة. سبعمائة وثلاثون ساعة بالتمام والكمال وأنا أتابعها ﻻ تفصلني عنها سوى شاشة من الزجاج، تجذب جميع حواسي عدا السمع. في الحقيقة ما كانت تنتهي تلك الساعة إﻻ بممارسة جرم مشؤم، يقال أني كنت أمارس الاستمناء، ﻻ أعلم، لم يشاهدني أحد، ولم يسمعني أحد، ولم يسبق لي أن أخبرت أحداً بحقيقة تلك السهرة اﻷخبارية التي سخرت لها ميعادً يومياً طوال العامين السابقين. سكنتني مساحتين غامضتين, للفرح وأخرى للندم وأنا أراها لأول مرة, كان ذلك عندما كنت أتنقل وحيداً في ممرات أحد الفنادق المشهورة في بلد عربي ذاع صيته إعلامياً, في مونديال للمرئي والمسموع نظمه اتحاد المنتجين العرب في أواخر العام الخامس عشر بعد الألفين. أرقب بخفة وحذر فتاتي الأخبارية يلتم حولها عدد من الإعلاميين العرب, وأتجول بعينيّ متفحصاً, أعبر بهما جسدها كجهاز تفحص الألغام, وكما يقوم خبيري الألغام بتفحص الأرض, كنت أتفحص جسدها بنفس وتيرتهم يصحبها القلق, ويتصبب العرق من جبيني, تزداد ضربات قلبي, تتسارع حركة صدري صعوداً وهبوطاً مع شهيقي وزفيري المتسارع واللا منتظم . - جيمي .. تعال ذاع صوت خلفي, عرفت فيما بعد أنه يخص الإعلامي اليمني أنور الأشول يطلب مني رفقته. يمر, أمر برفقته, نتجول في ساحة المعرض المقفلة, وأسترق النظر بين الفينة والأخرى, أكحل عيني بجمال فتاتي التي استطاعت أن تلزمني متابعتها لساعة كاملة يومياً ولمدة تزيد عن العامين. بدتا تلكما المساحتين الغامضين التي سكنتاني بالوضوح, وأنا أتحول في بضع دقائق إلى فارسٍ يمتطي جواداً حمدانياً ويسابق الزمن في الوصول إلى عينيها اللتين تشبها الطبيعة بجمالهما, أتخلص بمهارة من رفيقي وألقي عليها التحية. - أهلا برزت أسنانها الأمامية وهي تلقي عليّ تحيتها بابتسامتها اللذيذة - أنا جمال الشعري .. من اليمن أقول, بينما أحاول إخفاء ضربات قلبي المتسارعة - وأنا .. قاطعتها : - أعرف .. وهل يخفى القمر. أكملت ملامح ابتسامتها لتزين أرجاء القاعة المقفلة, دار حديث مطول بيننا, أخبرتها عن تلك الساعة اليومية التي أقضيها خلف شاشة التلفاز أتابعها وأنا أختزل حواسي الخمس بحاسة واحدة -حاسة النظر- تستوقفني كل يوم إضاءة عينيها الخضراوين. أثناء اعترافي اتسعت حدبة ابتسامتها بجمالٍ أكثر وأنوثة أعمق, وكأن ملامح وجهها عبارة عن تقلبات تمر بها فصول السنة الأربعة لتنتج بذلك الربيع ببشاشته المطلقة, وتستريح الزهور أسفل جفنيها. - سأنتظر مهاتفتك انتهى ذلك الحوار بتبادل كلٍ منّا أرقام هاتفه, وهي تترك لي فرصة مقابلتها مرة أخرى.

دمتُ رفيقاً وحيداً لها طوال فترة اقامتها خلال فعاليات المعرض, حتى أصبحت زيارات بعضنا ضرورية, يحتم على كلٍ منّا فعلها. انتهت تلك اللقاءات آخر أيام المعرض, وفي مهاتفة تلفونية في صباح يومٍ يشبه خديها بطبيعتهما الجميلين, أخبرتني أنها سوف تُعد على شرفي حساءً ساخناً وتدعوني وحيداً للعشاء. في تلك اللحظة دعوت أنا أيضاً عقارب الساعة للعشاء معي, شريطة أن تمر بسرعة وتحجب عن عينيّ ضوء النهار. وفي سباق مع الزمن ابتعت في طريقي باقة مزدوجة من الكالا واللافندر في خليط مزدوج من زهرتين لا يجتمعان إلا على شرف امرأة محظوظة كالتي دعتني وحيداً على طاولة مائدتها في ليلتها الأخيرة. أطرق باب حجرتها الفندقية بيدٍ من المطاط, بعكس تلك الكف التي سئمت التعامل مع الحجارة والطين, تفتح باب حجرتها, وكأنها فتحت أمامي منفذ للعبور إلى الجنة, يتدلى شعرها الحريري خلف الباب, بان خدها, عينٌٌ تعكس إنارة المكان الأبيض, تكوّن قوس قوزح في المكان, نصف شفتين حمراوين يتدليان أسفل أنفٍ من زجاج. رحبت بي وجسدها يظهر تدريجياً من خلف ستار المنفذ, جسد من اللؤلؤ يرتدي قطعة واحدة من الكتّان, كتفان عاريان ونهدان من المرجان, أخفت عني تلك القطعة ملامح فخذيها التي تحجب عني رؤية الكون, ساقان من مرمر, وعمود إنارة يضيء خلفها - إنها الجنة حقاً أقول... تضحك, تعيد بضحكتها ترتيب تلك اللحظات التي تسمرت بها عينيّ تتأملها, " الجنة أقصد " تعود خلف بابها, وكأنها تلزمني حق الاحتفاظ بالصدمة, أو المثول لها, أو الخيارين معاً. - أدخل تقول متوارية, أمدُّ بكفي باقة الورد الباهظة, يمر قرب أذني صوت فيروز " البنت الشلبية .. عيونها لوزية .. بحبك من قلبي يا قلبي .. أنتِ عينيه .. حد القناطر .. محبوبي ناظر .. " تمد ذراعيها العاريتين, تمسك كفي, تجرني للدخول, وكمومياء محنطة تجمدت ساقاي, وفي لحظة استوقفتني جملة فيروز " كسر الخواطر يا ولفي ما هان عليا ". تمتد ساق, تسبقها ساق, أرتل دعاء الدخول, يحجب عن أذني عبدالحليم حافظ صوت فيروز " أسمريا اسمراني " أتجول بعينيّ كعدسةٍ مقعرة تتفحص المكان, طاولة عليها كساء أحمر, اعتلاها قنينة ماء مزخرفة وكوبان من زجاج, وأطباق مغلفة, تلتف حول قطعة حلوى دائرية من الكاكاو والكريما. يرتفع صوت عبدالحليم" أنت اللي ليا ", أطْفِأت أنوار الحجرة دون سابق إنذار, أشْعِلت شمعة خلفي, التفت, تظهر أمامي ملامح حورية - أقسم أني في الجنة أقول .. تبتسم, تمر قربي, أشتم رائحة عطرها, يلتف جسدها حول مائدتها, تشعل الشموع على طبق الحلوى. تطلب مني الجلوس, اعترتني رغبة في الضحك والبكاء معاً - في ديوان يخص عاقل حارتنا, كنت أجتمع مع أبناء الحي في جلسة مقيل, كنّا نتتابعك, كالعادة نتابع الأخبار, الأخبار فقط وقبل أن تسدل الستار عن طبقي المغلف, أكملت - من عامين فقط, تابعتك وحيداً, تابعت كل شيء يخصك, كان الفضل في ذلك لصديقي العكوش عبدالرحمن بيدٍ لطيفة تفتح فمي, تستخدم عوداً من النحاس, تضع حساءً, حساءٌ لزجٌ، يمر عبر فمي، إلى معدتي، مروراً بحلقي، محايداً، وكئيباً دون مذاق، ربما كانت شربة، أو لحم ظأن، أو العقدة اليمنية التي تناولناها معاً مسبقاً في مطعمٍ يمني, ها أنا أفقد جميع حواسي مرة أخرى وأختزلها في حاسة واحدة - الجميع لا يعلم الآن أني برفقتك, وحيداً, وتطعمينني بيديكِ اللطيفتين تغرس أظافرها بين خصلات شعري, تبتسم, تُزرع زهرة اللوتس قربنا, وكأنها القدر الوحيد الذي قد يجمع بين رجل من فراغ وامرأة من خبر. - لو أخبرت أبناء الحي أنك برفقتي, سوف ينعتونني بالكذب أو الجنون, عبدالرحمن أيضاً لن يصدقني تضع وعاءً يسكنه حساء ساخن, تمسك قنينتها المزخرفة, تملأ كوباً قربي, سائل برتقالي اللون ينحدر من رأس القنينة, كف من زلال يلتف حول الكوب, سقتني شراباً دون مذاقٍ أيضاً. - أنت أعظم شخص قابلته في حياتي أرفع كفي حول كفّها, أضع كوباً كان في فمي, أتأمل عينيها, تقترب, تقترب معها رائحة جسدها, روائح كثيرة ونفاثة, فاتنة مثلها, طلبت منها معاودة ما قالت - أنت أعظم شخص قابلته في حياتي تكرر.. وقد اقتربت أكثر حتى شعرت بها تلمس وجهي انتابني رعشة, تلك الرعشة التي تخلقها لحظة التقاء كفين في عناقٍ حميمٍ، أو شفتين في قبلةٍ ساخنةٍ، تذيب جليد هذا العالم البارد، وتعيد ترتيب الكون. " جزء من النص مفقود " انتهت حفلة عشاءنا, بقرب موعد مغادرتها, على متن طائرة صنعت من القسوة, موعد يسرق مني أجمل اللحظات وأمتعها. لم يكن ذلك الموعد آخر منحنيات القسوة, الأيام التي مرّت أشد قساوة منها, لم تحدثني بعد سفرها, وفي مدة تزيد عن العام تابعتها بنفس وتيرة صديقي خلف شاشتها وعبر فقرتها الأخبارية. في مساء إحدى ليالي شهر أكتوبر من العام السادس عشر بعد الألفين, وبينما كنت أتابعها كالعادة, بفاهٍ مفتوح وعينين جاحظتين, تلت آياتها الأخبارية بحنجرة ممتلئة بالدموع وعينين ذارفتين, وأنفٍ محمر - وفي موازاة مجزرة قاعة العزاء في صنعاء شنّت طائرات التحالف غاراتٍٍ على منطقة الـ .... تبكي وتكمل الخبر, استطعت من كوة صغيرة في عينيها أن أرى صورتي, وكأني أجلس قربها, أتحدث هامساً بوجع بلدي, لابد أنها مالت برأسها تُقبل جبيني, لابد أنها أحاطتني بذراعيها في تلك اللحظة, ونامت على صدري مجهشةً بالبكاء - عذراً تقول, تمسح دمعة سقطت فجأة, احمر خداها بعد أن ارتفعت وتيرتها في البكاء, تحاول اخفاء وجعها من خلال خبر بعيد عن الشأن اليمني - ومن الشأن الفلسطيني حيث..... سقطت دمعة أخرى على خدي, لم أستطع مقاومة ذلك - يُبكي واقعنا العالم ولا نبكيه أقول في نفسي, يلتف ذراعي حول عنقي, انهارت مقاومتي, أسقط باكياً, قطرات الدمع سالت كأنبوبة ماء مثقوبة, أتكأ على جدار حجرتي, أطفئ التلفاز, وأكتب هذا النص, قاطعني رنين هاتفي المحمول, كانت هي - تذكرتك يا جمال.. تذكرتك .. لم أستطع المقاومة حينها