هاتف محمد

جمال الشعري
الاربعاء ، ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٢:٠٠ صباحاً
مشاركة

هاتف محمد

جمال الشعري

بعد أن قتل الشهيد كنت شديد الحرص على سداد مديونيته، وإلى فترة قريبة من موته كنت على معرفة بمن استلف منهم مبالغ مالية، كل تلك المبالغ كانت مديونية اقترضها لمتابعة الجهات الحكومية لإعادة منزلية، مبالغ كثيرة وكبيرة، احتاجها الشهيد للقرب من ذوي النفوذ أملا في انصافه.

تواصلت مع من اقترض منهم، كانت ردود جميعهم:

_ قد أعادها المرحوم، نسأل الله له الرحمة والمغفرة.

لم أكن أتعجب تلك الردود، بل كنت أدرك فضل الشهيد على الجميع، وأدرك وجع من استدان منهم، وجميعهم أثنوا عليه وطلبوا الرحمة له.

وفي محاولة أخيرة لسداد مديونيته التي قد لا نعرفها سألت عن هاتفه، ربما نجد شيئا يدلنا عن دائن لا نعرفه، فقيل لي:

_ أخذ قاتليه هاتفه منه بعد أن قتلوه، هل يعيدونه إلينا؟!

بمجرد وصول الشق الأخير من التساؤل، تذكرت محتوى سمعي في هاتف الشهيد، فقلت:

_ وكيف لهم إعادته وفيه تدندن أوتار عبدالفتاح القباطي وصوته الثائر ينقل تساؤلات البردوني.

لماذا لي الجوع والقصف لك

يناشدني الجوع أن أسألك

وأغرس حقلي وتجنيه أنت

وتسكر من عرقي منجلك

لماذا وفي قبضتيك الكنوز

تمد إلى لقمتي أنملك

وتقتات جوعي وتدعى النزيه

وهل أصبح اللص يوما ملك.

أجبت عن تساؤل أقربائي عن أمل استعادة هاتفه قائلاً:

_ لن يعيدوه، لن يردوه، وكيف يفعلون وفيه تتعرى أجندته الدموية واللصوصية بين كل ضربة وتر من أوتار العود الخمسة، كيف يعيدونه وفي كل تساؤلات البردوني التي أدان بها الحكم الإمامي سلوكهم ونهجهم، كيف يعيدونه إلينا وهم ينكشفون وتتدلى عنهم الأغطية.

قبل كتابة هذا النص، كنت في حقل (اليوتيوب) أبحث عن محتويات تزيح عني الثقل الذي يؤرقني وفي محاولة تبعدني عن الوجع ولو لدقائق، أنتقلت من فيديو إلى آخر، ومن محتوى درامي إلى محتوى وثائقي، وفجأة ظهر لي هذا الفيديو الذي أقسم ظهري، وأعاد إليّ الحزن أضعاف مضاعفة، يُسكر عيناي بدمعهما ويحتشر في حنجرتي الوجع.

طعم الدمع مالح، ولكنه أقل ملوحة من خبر سقوط عزيزنا المفقود.

تذكرت زيارات محمد، وانتظاراته لتواجدي بداخل سيارته، وفي كل مرة كان يستعجل حضوري بهذا المقطع الصوتي، يدير عجلة صوت المسجل في سيارته فيتعالى ضجيج الأغنية، ويرتفع صوت القباطي، وأخرج من بيتي مهرولا مرددا كلمات البردوني.

اليوم وقبل كتابة هذا النص، تعود لي نفس وتيرتي التي كنت ألقى بها الشهيد محمد، أردد بصوت مرتفع مع الكلمات، ويحتشر معها الوجع في حنجرتي، اليوم أنا أرددها متوجعا بائسا تنعدم بداخلي الفرحة، أرددها باكياً وسائلً لزج ومقرف يمتلئ في فمي.

أتذكر ابتسامة محمد عندما كنت أخرج مهرولا إليه وهو يقول:

_ أنا عارف إنه ما بتخرجك بسرعه إلا هذه الأغنية.

ذهب محمد إلى الأبد، ولكنه ترك فينا وجع أبدي سيرافقنا ما حيينا، ذهب ولم يعد لدي من يسمعني هذه الكلمات أملا في الخروج، ذهب وترك هاتفه بحوزة (الصغير عبده حمود والتلميذ رامي الخليدي) يكملون استماعهم لأغنيتنا المفضلة، ويقهقون وكأنهم الأشراف الأنذال الذين وصفهم البردوني، أتخيلهم كذلك، يقهقهون ويستمعون:

لماذا تسود على شقوتي

أجب عن سؤالي وإن أخجلك

وإن لم تُجب فسكوت الجواب

ضجيج يردد ما أنذلك

لماذا تدوس حشايا الجريح

وفيه الحنان الذي دللك

ودمي ودمعي سقاك الرحيق

أتذكر يا نذل كم أثملك

غدا سوف تلعنك الذكريات

ويلعن ماضيك مستقبلك